لا حاجة للعربية إلى أن تثبت لنا قدرتها اللغوية أمام الحياة المعاصرة ، و احتواءها الأحداث المستجدة ؛ لإيجاد مصطلحٍ لفنٍّ من فنون العلم ، أو لاسمٍ على آلة حديثٍ اختراعُها ؛ لأنها أثبتت على مدى قرون دابرة جدارتها لتلبية متطلبات الناس في حياتهم المختلفة ، فلم يقع منها عجز أو قصور في جانب من جوانب الحياة ، و إنما كانت ملاذًا آمنًا لجميع النس على اختلاف طبقاتهم العلمية ، و السياسية ، و في العادات و التقاليد ، فـكل صاحب فنٍّ وجد ضالته في العربية ، و لم يتعثر أحد أمَّ أن يغترف من لجج هذه الفاتنة الساحرة .
إذن ، لم يكن صوابًا ، و ليس على النهج المستقيم عقلًا ، و لا على سبيل أهل الحكمة أن يثور ثوَّارٌ على العربية و يصفوها بالعُقم و القصور في وصف آلة مستحدثة ، و كان الأولي أن يتهموا على أنفسهم أوَّلًا ؛ إذ تقاصرت هممهم عن البلوغ إلى صهوة أدلة الألفاظ العربية ، و هذا اعتراف منهم بالعجز ، و ضعف إدراكهم ، لكنهم لم يشاءوا أن يعلنوا ذلك علنًا أمام الملأ ، فراحوا يخلعون صفتهم الذميمة ثم ألقوها على العربية ؛ لإيهام ضعاف النظر أمثالهم ، و لو كان لهم فضل تبصرٍ لعلموا أنهم المطلوبون من أن يثبتوا جدارتهم ، و أحقيتهم إزاء اللسان العربي .
و ماذا ننتظر من امرئٍ لا يدري أن يضع الأسلوب المناسب في الإجابة بما يتلائم مع السؤال أسلوبا عربيًّا بليغًا قحًّا ؟ !
اعلم – أيها اللبيب – أن لدينا في العربية أدواتٍ نسميها أدوات الجواب ، و هي سبع أدوات ( نعم – لا – بلى – جَيرَ – إنَّ -أجل – إي ) و يغلط كثير من الناس في استعمال هذه الأدوات ، و هي ليست على مستوى واحد في الاستعمال ، فـبعضها قد عُطِّل استعمالها في الصورة العربية الأخيرة ، و لم يحفظ لها إلا في النصوص القديمة نحو ( إنَّ ) فقد استُعملَت بمعنى ” نعم ” و جاءت بها نصوص من الشعر العربي ، و قيل في قول الله – تعالى – ( إن هذان لساحران / طه ) بتشديد النون بأن معناها : نعم ، و منها ( جَير ) و قلَّ الاستعمال في بعضها كـ ( إي ) و لا تستعمل إلا مع القسم ، كقولك : إي و الله ، و أما التي كثر دورانها على الألسن فـ ( نعم ، و لا ، و بلى ، و أجل ) نعم ، حرف استعلام ، و يجاب بها التصديق ، نحو : التقيت بزيد و علمت أنه أخوك ، تقول : نعم ، و يجاب بها الاستفهام الخالي من النفي ، نحو : أكان الذي يكلمك عَمرًا ؟ تقول : نعم ، هل أكلت شيئا في الصباح ؟ تجيب : نعم ، و إذا أردت النفي قلت : لا ، في الأمثلة السابقة ، و أما ” أجل ” فلا يجاب بها الاستفهام ، و إنما هي للتصديق وحده ، تقول : شاركتك فرحتك اليوم و أرجو أن لا يتعكر مزاجك بعد الآن ، ترد : أجل ، و لا تجب بها استفهامًا ، و أما ” بلى ” فهي لكل نفي ، نحو : لم يسق عليٌّ الزرع ، تقول : بلى ، إذا أردت الإثبات ، و إن بدا لك أن توافق المتكلم على قيله ، قلتَ : نعم ، و تقول : ما كنت صاحب عمرو ، تجيب : بلى ، و كذلك يجاب بها الاستفهام المنفي، مثل : ألم يكن بيننا صداقة حميمة ؟ تجيب : بلى ، إذا أثبت ، و إن أردت أن توافق كلام المتكلم ، قلت : نعم ، أي : لم يكن بيننا صداقة حميمة ، و هذا الباب مسلكه دقيق جدا ، و من أتقنه فقد حاز منازل البلغاء ، و امتطى صهوة الفصاحة ، و تفصيله عند البلاغيين أدق و أنشر ، لا تغفل عنه ، و اسع لطلبه.
عفيف إسماعيل يوسف
طالب دراسات عليا في اللغة العربية وعلومها- جامعة الأزهر