يعدُّ الحوار بين أفراد المجتمع وطبقاته من أهمِّ مقوّمات نجاح هذا المجتمع واستمراره؛ إذ به تتقارب وجهات النظر، وتتَّسع المفاهيم والمدركات، وهو وسيلةٌ ناجحة للتعبير عن الأفكار والحاجات والرَّغبات والمواقف والمشكلات؛ يستطيع الأفراد من خلال الحوار إيصال الأفكار واستقبالها، وطرح التجارب وتهيئتها للعطاء والأخذ، والمشاركة في سعي دؤوب نحو تحقيق حياةٍ مستقرّة متحضِّرة، يجد الإنسانُ في ظلاله الوارفة راحة لنفسه، واستقرارًا لحياته، وأُنْسًا لفكره وضميره، وفيضًا من المشاركة الصَّادقة، واطمئنانا تنعم به أطياف المجتمع كافَّة.
إنَّ مدلول كلمة «الحوار» في اللغة لا يخرج عن معاني المخاطبة والمجاوبة والمراجعة، التي تقتضي وجود طرفين فأكثر يتبادلون الحديث، وبهذا المعنى ورد في محكم التنزيل: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُمَا} [المجادلة:1]، {فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ} [الكهف:34]، {قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ} [الكهف:37].
لقد اقتضت الحكمة الإلهيَّة جعل الناس مختلفين، تتعدَّد آراؤهم وأفهامهم، وتتنوَّع عقائدهم ومعارفهم، فاختلاف التنوع بين البشر سنَّة كونيَّة وحقيقة فطريَّة وقضاء إلهي، مرتبطٌ بالابتلاء والتَّكليف الذي تقوم عليه خلافةُ الإنسان في الأرض، يقول تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ} [المائدة:48]، فلابدَّ إذنْ من الحوار الذي يمثِّل الأداة الحضاريَّة المثلى لضبط الاختلاف المذموم (اختلاف التصادم والتضاد)، وإيجاد أرضيَّة مشتركة بين الأطراف المتعدِّدة أفرادًا وجماعاتٍ؛ لتفعيل قِيَم التَّعارف والتَّعاون بين الناس، والانفتاح عليهم، وفهم وجهات نظرهم، والاستفادة الإيجابيَّة من معطيات حضاراتهم وثقافتهم ومعارفهم، وتحقيق المصالح المشروعة المشتركة بينهم، ولاسيما في هذا العصر الذي يدخل العالم فيه مرحلة من المتغيِّرات الجذرية والتطوُّرات الكبرى والتحوُّلات السَّريعة على مختلف الأصعدة، ويشهد ثورةً هائلةً في وسائل الاتصال والإعلام وتدفق المعلومات، وما تفرضه هذه الثورة من إمكانات غير مسبوقة للتَّواصل الثَّقافي والفكري والقِيمي بين الأطراف المختلفة في الشَّعب الواحد وبين الشُّعوب الكثيرة المتعدِّدة.
وينطلق الحوار بين المختلفين من قاعدتين أساسيتين:
القاعدة الأولى: هي الاعتراف بالاختلاف والتنوُّع في الرُّؤى والمفاهيم، وبحريَّة التعبير عنها. ومهمَّة الحوار هنا: هي عدم تحويل الاختلاف إلى خلاف؛ حيث إنَّ الحوار في رسالته الإنسانيَّة لا يسعى إلى إدانة أو إلى إزالة الخلافات بين الناس، ولكنه يعمل على إرساء ثقافة احترام التعدُّد والتنوُّع على أنها قائمة ومستمرَّة، فالسلام بين البشر لا يكون بإلغاء الاختلافات بل باحترامها عن طريق الحوار.
القاعدة الثانية: هي الاغتناء بقِيَم ومفاهيم الآخر المختلِف. ومهمَّة الحوار هنا: هي مدّ جسور التعارف والتعاون المتبادَل؛ تطلعاً إلى الحقيقة الجامعة المتمثلة في مبادئ التعايش والمواطنة المشتركة، فهو حوار يقوم على تعدُّد وجهات النظر، والتَّعاون فيما بين أصحابها في تعزيز المشتركات الإنسانية. وبذلك يصبح التعايش والتفاهم والتعاون بين الأفراد والجماعات وسيلةً فعَّالة من أجل بناء الوطن وتحقيق الأمن والسَّلام وإقامة العلاقات السلمية بين الأفراد والشعوب، واحترام حقوق الإنسان والحريات.
لقد حثَّ الإسلام في القرآن الكريم على الحِوَار مع المخالفين، وخاصّةً أهل الكتاب، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ} [آل عمران:64].
وتتسع دائرة الحوار في الإسلام لتشمل ما لا يُحصَى كثرةً من القضايا والمسائل، فنجد في القرآن الكريم هناك حوار بين الخالق جلَّ وعلا ومخلوقاته من الرُّسُل الكرام عليهم السَّلام، ومن الملائكة المقرَّبين، ومن الشيطان الرجيم. وهناك حوار بين الرُّسل عليهم السلام وأقوامهم، بين أتباعهم وبين مخالفيهم. ونجد محاورات في القرآن الكريم مع أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ومع مشركي العرب، ومع المؤمنين. وإذا خاطب القرآن الكريم هذه الفئات المتعدِّدة؛ فإنه يعني مخاطبة أية فئات جديدة توجد عبر التاريخ مهما تنوَّعت مقولاتها الفكرية؛ ليبرهن على مقدرة العقل السليم على محاورة أيّ فكرٍ مستجدّ.
وإذا كان الحوار ضروريًّا في مرحلة الدَّعوة المبكِّرة في مكة والمدينة وما تلاهما، فهو اليوم أشدُّ ضرورةً وأكثر أهمية في ظل المعطيات الحضارية المعاصرة. ومن هنا، يعدُّ الحوار مطلبًا إنسانيًّا ملحًّا للحياة على هذه البسيطة وعلى أرض جزر القمر.
المصدر / دار الإفتاء