إننا مجرد مبتدَئين في الحياة ، أصلنا أن نكون مرفعِي الرؤوسِ ، لكنَّ الحياة التي وصفها الله بقوله ( و تلك الأيام نداولها بين الناس / آل عمر ) قد تجرُّك إلى أن تكون مقدَّرًا في محلك الذي تستحقه ، فـتُعبَّر بالاسم المقدر قائلين هذا محله ، و قد تؤدي بعضُ أساليب الحياة إلى أن تُحذف من الوجود رغم أن أصلك كان يقتضي أن تكون موجودا ، تماما كالمبتدأ الذي يُحذف من مكانه و هو أحد ركني الجملة لا تقوم الجملة إلا به ،
و نحن حين نقول : الحياة فهي عبارة عن وجودٍ فيه مصنوعٌ ينتفع به ، و أنت ذاك المصنوع ، فلا يبقى لك بعد حذفك إلا ذكرك و عملك الدؤوب الذي خلفته ، فهو الأثر الذي عليه الخبر و إن كان مبدؤه قد استُؤصل من مكانه إلا أن الخبر يُمثِّله ؛ لأنه قد نال رفعًا من قِبَله ، و لولا هو لما كان ذاك الخبر ،
و أجمل أثر يدعه أحدنا في أدبار الدهور أن يكون طيبًا ، لتكون على ذكرٍ دائم في مَن خلفتَهم وراءك ، فصراعك في الحياة بين الوجود و التقدير الإعرابي ، و أثرك في جميع الأحوال هو ما يدل عليك ، و يسبب لك الذكرى الحسنة ، و لا تغتر بالكسر الذي تُحدثه الحياة فيك ، فالمبتدأ مبدأ و إن اعترض عليه كسر ، و إن جره حرف الحياة و مشكلات الوجود ، تلك سنة الحياة ، لا يشذ عنها شيء ، و ما من شيء يوصف بالوجود إلا له عوارض ، إلا الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ، فهو و إن وُصف بأنه شيء فهو ليس كالأشياء ، و تذكر دائما قول الشاعر :
يوم لنا و يوم علينا :: يوم نُسر و يوم نُساء
و قَدِّم للناس ما تحب أن يقدموه لك ، و ائت بهم ما تهفو نفسك أن يُؤتى بك ، و اذكر قول نبيك الكريم – صلوات ربي و تسليماته عليه – ( و خالِق الناسَ بخلقٍ حسن ) و اعلم أنه مسطور لك و لم يذهب سدى ( سنكتب ما قدموا و آثارهم / يس) ألم تختبر صبر المبتدأ ؟ كيف أنه يُقدَّم حينًا و يؤخر حينًا ، و ينوب عنه غيره ، و لكنَّه واثق بفيض رحمة ربه.
يقينه راسخ في قلبه كالطود العظيم ، فـجزاه ربه خيرًا و حفظ له ثوابه ، بحيث لا يكون على وجه الأرض نحويٌّ سليقيٌّ أو متعلم يروم إعرابه إلا ذكر موقعه رغم غيابه عنه ، فيذكرون فضله و مآثره ، و ذاك مجاهدة كبيرة و ربك القائل ( و من جاهد فينا لنهدينهم سبلنا / العنكبوت) فـكن مبتدأ و لا تكن خبرًا يُستغنى عنه بمرفوعٍ فاعل ، فهل سمعت قيل : خبر بلا مبتدأ ؟ ! و إنما نسمع كثيرا يقولون : مبتدأ بلا خبر ، و مبتدأ له خبر و ليس له خبر ، فكن أنت الحياة و لا تكون الحياة أنت ؛ كي لا يُستغنى عنك بغيرك ، و هذا تناله إذا ما قمت بالواجب الشرعي و ما ينبغي لك في الإنسانية ، و مدار ذلك كله قول المولى القدير : اصبروا و صابروا و رابطوا و اتقوا الله / آل عمران ) و هذا ختام عظتنا ،
اللهَ نسأل أن ينفعنا بما علَّمنا ، و نتضرع إليه أن يرزقنا اتباع الحق إذا علمناه ، و يرزقنا اجتناب الباطل إذا لمحناه ، و أن يوفق حركاتنا لما فيه خير و صلاح لدارَينا !
عفيف إسماعيل يوسف
طالب دراسات عليا في اللغة العربية وعلومها- جامعة الأزهر