إنه ليبدو أن التبعية الدبلوماسية بدأت تأخذ منحىً جديدة في العلاقات الدولية في العصر الحديث حيث نعتها بعض النقاد بالعنجهية الدبلوماسية،
فعلى مر العصور استخدمت الأمم السابقة التفاوض كوسيلة وحيدة لحل المشكلات وكطريق ودي للتواصل والتعايش السلمي فيما بينها رغم اختلاف لغاتهم و اعتباره، أعني التفاوضَ، المدخل الرئيسي لتقارب المصالح والتعاون حول آليات تقريب المفاهيم بين الدول والأطياف ،
هذا المسلك هو ما يعرف بالدبلوماسية ، التي من أهدافها استمرارية العلاقات اليومية بين الدول من أجل مكاسب سياسية، واقتصادية بين الأطراف ولتحسين التعاون الدولي الذي لابد منه باحترام متبادل ، إذ كانت كل دولة حينها يتشكل ثقلها حسب ما تمتلكه من مقومات وعناصر القوة ،
إلى أن ظهرت في عقد الستينات من القرن العشرين الماضي نظرية التبعية السياسية وحاولت إبراز تأثير سيطرة نظام ما يعرف بـ ” الرأسمالية الدولية “على اقتصاديات الدول النامية ، الأمر الذي أدى إلى بقائها في حالة من التخلف الاقتصادي والثقافي والاجتماعي حتى الآن ،
و استطاعت نظرية التبعية أن يكون لها تأثير كبير في الستينات والسبعينات، وكانت تقوم على أن الدول الأغنى في حاجة للدول الأفقر حتى تستمر هي في النمو ، وإلا فسوف يكون مصير الدول العظمى الإفلاس مما يؤدي إلى عدم قدرتها على التكيف مع حالتها الاقتصادية والاجتماعية
وهذا واضح من خلال الضغوطات المكثفة من قبل الدول الاستعمارية الكبرى لإبقاء مستعمراتها السابقة في مجموعة من تكتلات اقتصادية وثقافية تابعة لها لضمان بقاء نفوذها و لخدمة مصالحها ، فبدلا من أن تعوّل الدول الناشئة اقتصاديا على الدول الكبرى صار العكس تماما وأصبحت الدول الكبرى تحيا و تنعم من فوق جثث شعوب الدول الفقيرة وفقا لنظرية مصائب قوم عند قوم فوائد ، فلِتظلوا جياعا لتحيا شعوب الدول الاستعمارية الكبرى في الرخاء ،
غير أن علماء النقد السياسي وجِلة غفيرة من الدارسين في علم الاجتماع السياسي ينظرون على هذه النظرية بعين الريبة معللين أنها غير صالح للتطبيق في العصر الحديث ، نظرا لتشابك المتغيرات والظروف الهيكلية التي تحكم العالم في العصر الحديث ،
فلم يعد في عالم اليوم ما تسمى بالدول الصغيرة ، ولا حتى مصطلح الدول الفقيرة مشطوب في قاموس مصطلحات علم الاجتماع السياسي ، و لم يعد بإمكان على الخريطة الدولية، كيانٌ لا يتملك المقومات اللازمة لمواجهة التحديات بكافة أشكالها ،
فمن وجهة نظر المحللين السياسيين ، أن من ضمن الدول التي تتظاهر بالفقر والجوع تجد أنها موجهة من قبل مجموعة من مضللين غرضهم قلب الحقائق لجلب مزيد من مبررات تمكنهم من ملئ جيوبهم بالتسول على حساب شعوبهم ،
وبالتالي شرع علماء النقد السياسي أنه لم يعد فوق سطح الأرض ما بعد القرن الواحد والعشرين ما تسمى بأمة فقيرة إنما توجد فقط قادة سياسيون غير قادرين على إدارة مواردهم الذاتية
وهذا ما يظهر جليًا عند بلدان مثل أرخبيل القمر التي تعتمد في مقرراتها على نظام التبعية الدبلوماسية والسياسية في تعاملاتها مع القضايا الدولية والتي بحقيقة الأمر أدت إلى انعكاسات خطيرة شلت كثيرا من مجهودات وفرص عدة كانت لصالح البلاد والعباد ، فبالرغم من اعتماد بعض الدول ما يعرف بالمناورة الدبلوماسية لنأي بالنفس بغية تحقيق مصالحها ، لم تزل هنالك شعوب تدفع ثمنًا باهظا للدبلوماسية العمياء ،
فإذا كانت الدول الاستعمارية الكبرى وقبل أن تتخلى عن مستعمراتها عمدت إلى تأسيس ما يعرف بالدولة العميقة، كان الهدف منها ضمان التبعية السياسية والثقافية للمحتل وهذا بالطبع كنوع جديد من الاحتلال، لا يقل أهمية و قسوة من الاحتلال الفعلي
فإن أبعاد التبعية الدبلوماسية والسياسية في العصر الحديث تشكل خطرًا جديدا ومنحىً أبعد من الاستعمار التقليدي فتضحية دولة ذات سيادة بمصالحها العليا لحساب دولة أخرى بذرائع وهمية وغير منطقية ، بالطبع هذه الآفة الجديدة هي الأخرى لا تقل خطورة من عباءة الاستعمار ،
والله غالب
يوسف علي امباي
أكاديمي وباحث في المعهد الأوروبي للدراسات الإنسانية-باريس
كل الآراء الواردة في المقال يتحمل الكاتب فقط كامل مسؤوليتها