“الموت فن ككل شيء أخر، وهو فن أتقنه بشكل استثنائي” – سيلفيا بلاث
أن تكتب ما تشعر به هذا يعني أنك تتعرى أمام وريقات غير قادرة على منحك سوى مساحة لإفراغ ما تحمله داخل قلبك، أنا ممتنة لهذه الوريقات
قبل خمس سنوات من الآن كنت أمتلك أحلاما لا يتعلق أي منها بالانتحار، أتساءل في أكثر لحظاتي سوداويا عما حدث؟ وكيف وصلت إلى هذه الحفرة المقفرة؟
ربما اليأس من الحياة، أو الوحدة القاتمة التي لم أعد أتحملها، أو ربما هو الضجر الوجودي بكل ما فيه من عنفوانية وجفاف؟
كيف هو مذاق الحياة بالنسبة لك؟ سألني عيسى ذات مرة. ” الحياة كبُرتُقال نصفه متعفن والآخر لايزال سليما يمكنك التلذذ به بحب وشراهة وعندما تصل للنصف المتعفن ينتابك شعورا بالحزن والمرارة لأنك ستتخلص منه ” أجبت.
“لا يمكن أن نحصل على كل شيء يا ثريا، على المرء أن يتعلم كيف يستمتع بنصف البرتقال الصالح للأكل دون التركيز في النصف المتعفن.” قال عيسى.
للحزن طعم خاص أشبه بمراسيم جنائزية لجدة العائلة، أتحسس به داخل فمي الآن، حاضرا بقوة وكأنه جزء مني ومن لعابي.
تتعالي أصوات العالم الخارجي، أرى كل شيء بأعين مختلفة، كل شيء ضبابي بشكل جنوني، كل شيء قابل للتحلل في أي لحظة، وهذا الجسد الثقيل سيتحلل أيضا بعد مدة قليلة.
يخيفني علاقتي بجسدي، لطالما شعرت وكأنه عبء ثقيل ألزم علي تحمله طوال رحلة الوجود.
كنت أشعر دائما بمدي غرابته عني، إنه لا يمثل سوى جزء ضئيل من روحي وأكاد أجزم أنه أسيئ فهمي بسببه مرات عديدة لكني أسامح.
وعلى الرغم من هذا التنافر الرهيب من هذا اللحم المتعب إلا أنني شعرت دائما بالشفقة والحب تجاهه.
يخيل إليّ أنه لم يكن سوى صديق صامت يرافقني في الرحلة، يعاني بهدوء، يسقط، يتعثر حينا، يبكي، يمرض ثم يقوم ليكمل معي الرحلة.
وسيخوننا هذا الجسد في نهاية المطاف، سيذبل ويعلن أمامنا بلا خجل عن مدى انهزامه الكبير أمام معارك الحياة، وكمحارب مخلص سينهار ببطء بعد تعب المعركة ثم ينتهي كل شيء.
مقيتة هي الحياة بذاكرة، ذكريات أول محاولة انتحار، ثم الفشل المريب الذي اعقبتها والعودة للحياة من جديد.
تغيرت معاملات الجميع ونظراتهم تجاهي، اتهمني البعض بالكفر، وشعر البعض تجاهي بالشفقة بينما راح الأخرون يقولون إني ورثت جنون العائلة بأكملها.
شعرت جدتي بخوف واضح تجاه ما قمت به، لم تتفاجأ كثيرا لأنها علمت أني على وشك تكرار الحادثة الأليمة التي لاتزال تتكرر مع كل أجيال العائلة، وعلى الرغم من حرصها على تقديم أكمل الرعاية لي إلا أنها لم تتمكن من ملاحظة التغير المفاجئ الذي حل بي في مرحلة ما قبل الانتحار، لعنة العائلة حلت علي كظل عنيد لا يسأم من مرافقة صاحبه.
لم نشفي تماما من رحيل والدتي، كان انتحارها أسطوري ومخطط بعناية تامة، لم يشك أحد بمدى إقدامها على ذلك، لكنني الوحيدة التي شعرت بمدى التعاسة التي كانت تلاحقها أينما وطئت قدميها.
كانت ممتلئة بالحياة ظاهرية ومقبلة على نجاحات مبهرة، لكن بالنسبة للبعض الرغبة بالحياة لا ترتبط بالضرورة بالنجاحات التي يحتازها المرء في حياته وهذا ما حدث مع والدتي.
اتذكر جيدا ذلك اليوم المشؤوم، كنت في الرابعة عشر من عمري وكان يوم أربعاء ممطر، عادت والدتي في تمام الثانية ظهرا من العمل، وكانت ملامحها متسمة بالبهجة، احتضنتني كعادتها وراحت تترشف عصير الأفوكادو المفضل لديها ” لقد حصلت على ترقية اليوم” أعلنت لنا ذلك النبأ العظيم ” حصلت عليها رغم أنف هؤلاء الأوغاد، تصوروا أن أحدهم أتى إليّ قائلا: هل كنتي تضاجعينه لهذا حصلتي عليها؟ الرجال هم دائما رجال، يعتقدون أن نجاح المرأة يكون في المطبخ فحسب وسط كومة من الأواعي المتسخة وعندما تحصل امرأة على مركز مرموق يكاد يجن جنونهم، كيف لامرأة أن تتفوق علينا؟”.
” متي سينتهي حربك على الرجال؟ تعتقدين دائما أنه ثمة مؤامرة ضد حواء وأن أدم هو الشر الخالص، هذه الأفكار الغريبة هي سبب طلاقك وسبب عدم رغبة أحدهم بك كزوجة ” قالت جدتي ثم أعقبت ” بيت بلا رجل لهو بيت مهدد بالسقوط في أية لحظة تذكري قولي هذا جيدا “.
” أُفضل السقوط على أن أتزوج برجل يهدده نجاحي ويريدني بلا صوت، ليذهبوا جميعا إلى الجحيم إذن “
أنهت العصير وذهبت إلى غرفتها لتستعد وتصلي صلاة الظهر، عادت مجددا إلي المطبخ وأعدت وجبة مميزة، تناولنها بهدوء وراحت تروي ذكريات طفولتي بحب ثم قالت ” لم يحبني أباك بالطريقة التي أردت أن يحبني بها رجل ما لكنني علي يقين أنه كان سعيدا بوجودك في الحياة يا ثريا، كان سعيدا بكونك جزءا منه “. في السادسة ونصف تماما سمعت صرخة جدتي داخل غرفة والدتي، كانت صرخة مقيتة، وفي اليوم التالي كان الجميع يقترب مني ويربتون على كتفي بعطف قائلين: “عظم الله أجركم” ورحت أيضا أستمع لهمهمات البعض قائلين ” شنقت نفسها “
تكتبها سعيدة سيد
خريجة الشرعة والقانون جامعة الأزهر
كل الأفكار والآراء الواردة تتحمل كاتبتها كامل المسؤولية