أبو فراس الحارث بن سعيد بن حمدان الحمداني التغلبي الربعي.. من قبيلة عربية حكمت شمال سوريا والعراق في القرن العاشر للميلاد.
وهو ابن عم سيف الدولة الحمداني وكان بينهما حباً عظيماً، وقد شارك مع سيف الدولة في كثير من المعارك، وولاه الحكم على منبج وحران اللتان تقعان بين حلب والفرات. كان فارساً شجاعاً وقائداً عسكرياً محنكاً وشاعراً فصيحاً بليغاً قوياً رقيقاً، وقد امتدحه المتنبي في كثير من قصائده. وقع أبو فراس في أسر الروم في إحدى المعارك وظل أسيراً لديهم أربع سنوات قال فيها أجمل القصائد والتي سُميت بـ(الروميات) امتازت قصائده بالسلاسة والفخامة والاعتزاز والشموخ والحلاوة والرقة.
أبو فراس شاعر متفرد كلما أمُر على قصائده يترائى لي وصف العقّاد للغة العربية بأنها “لغة شاعرة” لما فيها من طاقات وإمكانات شعرية وموسيقية. يتميز الحمداني بقوة استخدامه للتورية وكثافة الصور والأخيلة واللفظ العذب والمعاني العميقة عالية الجودة والجرس الموسيقي البديع وغنى أشعاره بالخواطر والحكم.
ويشهد التاريخ لشاعرنا بالقوة والجلد والصبر في النائبات التي لم تفت من عضده، بل ظل شامخاً جسوراً أبيّ النفس شديد الاعتزاز بها وبنسبه. يبتسم وهو في قمة الألم والأسر ومع ذلك لا يهمي دمعه بسهولة أبداً كما قال مفتخراً : ودمع دوماً في الحوادث غالي .
وقد مزج الحمداني في هذه القصيدة بين المعاني والانتقال السلس بين الأبيات، جعل القصيدة خصبة لغرس أي صورة يشكلها وجدانه المزدان بالكبرياء والتواضع والثقة. والجرس الموسيقي للقافية إذا ربطناه بالجوهر وجدنا ربطاً اتحادياً متوازناً بين المعنى والصوت، يترفع عن ذُل الهوى بالفخر كما يغوص بالفخر في ذُل الهوى بشكل غير مباشر وفي كلٍ تسامٍ جميل.
كما أن بداية النص بالاستفهام هو خارطة الشاعر داخل وجدانه طائفاً بخاطره بين راحة البوح والاسترسال فيه وبين مواراة مشاعره خلف جمال آخر من الطرح إذ يتسائل عن كيف السبيل !
ويجيب بأنه واقع بين أمر الحب وزجر الصون معزياً نفسه بالصبر الذي لا يكاد يفارق كل أشعاره وأجمله ما جاء في لاميته :
مصابي جليا والعزاء جميل *** وظني بأن الله سوف يديل
جراح وأسر واشتياق وغربة *** أُحمّل إني بعدها لحمول
ويقول الصبر أول ماتأتي أواخره .. وهنا تحتمل الصوره أكثر من قراءة تأويلية منها أن الفرج يأتي بقدر الصبر، ولقساوة الصبر نذوق طعم الفرج بشكل نظن فيه أنه جاء من آخره من شدة السعد به، فالحلاوة دوماً تكون في نهاية المعقود أكبر. ثم يفخر الشاعر بأنه وإن عشق أو فضحه غزل فإنه يظل على عفافه وتقواه ويتدرج بلطف في أشرف الناس أهل الحب منزلة وأشرف الحب ماكان عفيفاً سامياً في باطنه، ويزيد أن ليس لنوائب الدهر ولا للخوف من سبيل إليه إذ يتخذ بشجاعته وطيب سيرته من كل الأرض وطنه وكل قوم عشيرته.
كما بان إبداعه جلياً في “الأطناب” وهي في اللغة جمع طُنب، وهو حبل الخباء والأطناب هي مايشد به البيت من الحبال بين الأرض والطرائق، وأطناب الشجر هي عروق تتشعب من أرومتها. وفي هذا الجزء فخر مابعده فخر حتى أنه وصل فيه أن له التخير مشتطاً ومنتصفاً في تلك المساحات التي يرمز بها لأكثر من اتجاه في الأرض، وفي نفسه، في تصوره، في سلوكه النبيل، وفي حياته وغير ذلك من اتجاهات رفيعة تصل للقارئ فيحسها ولا يتحسسها.
والشطط هو المبالغة وتجاوز الحد والبعد، إذاً وبما أنه هو، فله أن يمد خياراته ومايبغيه في كل حد وبعد وحتى المنتصف وللأفاضل من عليّة القوم مايغادره ويتركه هو خلفه. أيُ عز وشموخ وأي فخر رفيع هذا !! لم لا وهو زاكي الأصل كريمه، والنبعتين إشارة لنسبه الطيب من أبيه وأمه ومن طابت أوائله أي – أصوله – طابت أواخره، أفعاله وسلالته وحياته كلها، لطيف أبو فراس في كل مداراته واتجاهاته الشعرية قوي الحرف والحكمة والحضور .