إن كل مسألة في علم النحو لَحقيقةٌ أن يُقال عنها بحر ، و إنَّ أحسن الناس بيانًا ، و أبينَهم كلاما ، و أحَدَّهم سيفا ، يقتل دون سيف الحديد مَن كان في علم النحو فقيهًا ، و بقوانينه متبحرًا ، و بطريقته آخذًا سالكًا ملمًّا شتاته ، متقد البصيرة في مسائله .
إن إدامة النظر في علم النحو يُورثك السَّليقةَ السليمة ، بل حتى و إن حادَ لسانك عن القانون العام لعلم النحو فإنه يميل لما هو أقرب منه مما لا يخرجك من دائرة الفصحاء ، حكى لنا أستاذ في الفصل موقفا حدث معه و صاحبٍ له ، استضافهم أحد إخوانهم فلمَّا انتهوا من القرى المقدم لهم قال لهم : قد أكلوا طعامكم الأبرار ، و كان مخطئًا في البداية ؛ لأنه لم يرد أن ينطق بهذا ، و لكنه استدرك الموقف و قال لإخوانه : إنما أردت لغة أكلوني البراغيث ، و على هذه السنن قد تجد نحويا خارجا عن القانون العام كالذي يرفع المثنى في حالتي النصب و الجر سهوًا أو ناسيًا لكنه سريعا ما يستدرك الأمر و يقول : إنما صغتُ كلامي على طريقة مَن يثبتون الألف في جميع الأحوال ، و كلما كان الإنسان مستوعبا النحو وجد لنفسه مندوحة إذا أخطأ ، و كَثُر عنده التأويلات التي تبعد كلامه عن الخطل و الفساد .
من خلال ما أمليه عليك أردت أن أسوقك إلى مسألة في باب النحو ، هي مسائل لا ينبغي لطالب النحو أن يغفل عنها ، و ذلك أنك إذا قرأت في باب الابتداء وجدت العلماء يتحدثون عن نوعين من المبتدأ ، يقولون لك : إن هناك مبتدأ له خبر كقولك : محمد نبينا ، و الله ربنا ، و ثَمَّ مبتدأ ليس له خبر ، و من الممكن أن تتساءل : كيف يكون لمبتدإ دون خبر ، و نحن قد تلقينا أن الجملة الاسمية مبينة على ركنين أساسيين ، لا يمكن الاستغناء عن أحدهما ، لأن البيت لا يقوم بعمود واحد ؟ !
قالوا لك : نعم ، كلما ذكرته صحيح ، و لكن المراد بالمبتدأ الذي ليس له خبر ليس يعني أن الجملة فارغة ، انها قامت بركن واحد ، لا ، لكن هناك شيء طرأ على هذا المكان و اغتصبه من صاحبه بقوة و نصب نفسه ملكا عليه ، و هذا لا يكون إلا إذا وُجد مَن يسوغ له ذلك ، و الدي ساعده على ذلك هو المبتدأ نفسه ؛ و ذلك إذا كان المبتدأ وصفا ، و الوصف يشمل عدة أشباء : اسم الفاعل و اسم المفعول و الصفة المشبهة و غيرها.
قال العلماء : إن هذا النوع على ثلاث أحوال :
الأولى : أن يكون الوصف و فاعله مفردين نحو : أقائم زيد ؟ كيف سائر عمرو ؟ ما ذاهب أنت ، و في هذه الحال ، يجوز لك أن تعرب الأول مبتدأ و الثاني خبرا أو أن تعكس.
الثانية : أن يكون الوصف مفردا و فاعله مثنى أو جمعا ، نحو : أمسافر أخواك ؟ أراحل أنتم ؟ ما ذاهب أنتما ، ففي هاتيك الحال لا يكون الثاني خبرا ، و إنما يعرب فاعلا للوصف ، و يكون الوصف هو المبتدأ و لا يكون هناك خبر ؛ لأن هذا الفاعل سد مكانه و أملأ الراغ.
الثالثة : أن يكون الوصف متطابقا مع الفاعل في الثنية و الجمع ، نحو : أراحلون أنتم ؟ أنائمون إخوتك ؟ أحاضران أنتما أو الطالبان ؟
ففي هذا الحال يُعرب الوصف خبرا مقدما و الفاعل مبتدأ مؤخرا.
و يُشترط في كل هذا أن يسبق الوصف بنفي أو استفهام كما في المثال ، فإن لم يسبق بنفي أو استفهام و كان الوصف مفردا و فاعله مثنًّى أو جمعا نحو : قائم زيدان ، فإن الثاني يكون مبتدأ مؤخرا و الوصف خبر ، و إذا قلت : كيف يصح أن يُخبر الجمع بالمفرد ؟ قيل : هذا على حد قوله – تعالى – ( و الملائكة بعد ذلك ظهير / التحريم ) فإن ” الملائكة ” مبتدأ و هو جمع ، و أقام ” ظهير ” مقام الخبر و هو مفرد ، و قيل : هذا خاص بوزن ” فعيل ” .
هذه المواضع مع صغر حجمها لكنها دقيقة جدا في اللسان و في الكلام ، يجب أن تفطن لهذا !
عفيف إسماعيل يوسف
طالب دراسات عليا في اللغة العربية وعلومها- جامعة الأزهر