ظهور الكتاب لسيبويه رحمه الله تعالى

    إنَّ ممَّا يُثبِّت قدمَ الطالب في محنته العلمية ، و يُسَلِّيه في مسيرته الطويلة ، و يخفف عنه العناءَ و اللغوبَ الذي يمس الحشا ، و يبعث العزمَ في فؤاده و الحرصَ على مزاولة العلم و المثابرة ، و الصبرَ على البلايا المحفوفة في أنحاء طريق العلم ، و يَحمِله على التجشم للمكاره التي على نواصي سيره ، و يَدفعه إلي مُلاينة البلاء عند اشتداده ، مطالعتَه (١)  سيرَ الجهابذة الأفذاذ من العلماء ، و متابعةَ أخبارِهم التي تواردت في حياتهم العلمية ، و كيف كان صبرُهم و تَحمُّلُهم على النوازل التي نزلت عليهم ، فـيَقرُّ في نفس الطالب ثباتٌ في مجابهة الحوادث ، التي تعرقل و تعوق سيره ، و لن يقف شيء أمام هدقه الذي حدده لنفسه ، و يزداد علمًا وقتئذٍ في إدراك قدرة المولى – تعالى جَدُّه (٢)  – في تصريف شؤون العبيد ، و في توليه المؤمنين و الصابرين ، إذ يواجه في سير هؤلاء العلماء ما تتراءى له عظمة الخالق ، و القدرة على إنفاذ مشيئته في خلقه ، و لا يشذ شيء عن حكمه مما أراده أن يكون ، و إن كان يخفى علينا نحن العبيد حكمتُه في كثيرٍ من الأمور ، و لا تتجلى فيها الحكمة إلا مع تقارب أزمنة انصرام المحنة ، و في هذه البابة العظيمة نستعرض حديثًا لعله يكون مفيدًا لطالب علم – إن لم يكن جلهم – فيكون مصباحًا له في أعماق بحار العلوم التي لا تتناهى .
    إن عُمُر العالم لا يقاس بطول بقائه على بِساط الأرض ، قد يقصر عمره الدنيوي ، و يطول عمره العلمي ، و قد يكون العكس بأن يطول دهره الدنيوي و يَقصُر عمرُه الحقيقيُّ في مجال العلم ، فـنحن نعلم يقينًا أخبار بعض علمائنا الذين لم يبلغوا في العمر نصفَ أعمار الأمة و جاءهم الحتفُ أحداثًا مُردًا ، لكنَّنا ما زلنا على ذكرٍ لهم ، نعايشهم ، و يعايشوننا ، فـمَن لا يذكر الإمامَ النوويَّ – رحمة الله عليه – و هو الإمام الفذ ، جامعُ العلوم و الفنون ، تلقاه في العلوم الشرعية نسيجًا وحده ، و في العلوم العربية تجده هاتيك القمَّةَ الشامخة ، يَسيل منه عطاءٌ بَاذخٌ، و تَمنح دونما حدٍّ .
    و إمام النحاة سيبويه من هذا الطراز العالي ، كلامه في اللغة شِرعة مُتَّبعة ، و قوانينه منهاج سالكٌ ، خَطَفَتْه أيدي المَنون في سِبنٍّ (٣)  مُبكِّرة ، و حُكم المنايا – كما تعلمه و نعلمه – تَحصد في غالب أمرها ما كان أجمل ناضرًا من الثمار ، أزكى ريحٍ ، و أطيبَ مذاقٍ ، لكنَّ حياة العالم كما قلتُ لك هي : أثره العلمي ، من مصنفات و تلامذة يحملون عنه علمه ، و قد حبا الله إمامَنا سيبويه – رضي الله عنه – هبة العقل و الإدراك ، و فتَقَ خلايا قلبه للفهم و الوعي ، ثم زاده الله امتنانًا بأن رزقه مُعلِّمًا حِبرًا باقرًا ، و هو الإمام الخليل بن أحمد الفراهيدي ، فكان كالشمس لسيبويه ، يبث فيه حياة العلم ، و يسقيه من المعارف أفانين ، حتى نَضُجَ هذا العقل الراجح ، و تَكوَّن منه شخصية فريدة الطبع ، و حيد النظير.
    لم يخلف سيبويه مصنَّفات كثيرة ، و إنَّما ترك مُصَنَّفًا واحدا يعادل ألفَ مُصنَّفٍ و يزيد ، إذا قستَه على ميزان العلم و العدل ، صَنَّفَ الكتابَ ، و وشَّاه بأقوال أشياخه ، و أترابه ، و ما وادعه الله له في فؤاده ، و مَتَّع فيه نظره ، و شَخَّص فيه بصرَه طويلًا ، فـوَلَدَ له فكرًا يُنسب به للنجباء ، و يرتفع به إلى مرتبة الأعاظم الأقوياء ، و لم يكن في نيته إلا ان ينشر العلم لينتفع به الناس ، فلم يَذع أمرُ كتابه في أوساط أقرانه زمانَ وجوده فيه ، لكن لمَّا اطَّلع الله على سريرته الحسنة ، و على صفاء نيته ، تَقَبَّله منه عمله ، و بارك له فيه .
    لم يُقرئ سيبويه أحدًا كتابه إلا تلميذه الأخفش ، و لقب ” الأخفش ” في كلام العلماء إذا أُطلق و لم يُنعت به انصرف مباشرة إلى ( أبي الحسن سعيد بن مسعدة  ) و هو أحد تلامذة سيبويه ، فإذا أُريد به غيره فلا بد أن يُضم له ما يوضِّحه كـ ( الأخفش الأكبر ، أو الأصغر  ) هذا التلميذ هو مَن عرف أمر الكتاب و حمله بين جنبَيْ أحشائه ، يروي الأخفشُ قائلا : ما وضع سيبويه في كتابه شيئًا إلا عَرَضه عليَّ ، و كان يرى أنه أعلم به منِّي ، و أنا اليوم أعلم به منه.  أ. هـ
    فليس للكتاب طريق إلى سيبويه إلا عن طريق الأخفش ، فإليه يعود الفضل في استبقائه ، و قد قيل إنه لمَّا رأى نفاسة هذا الكتاب أراد أن يدَّعي به له ، إلا أنه افتُضح أمره بين تلميذيه – الجرمي و المازني – فتعاقدا عليه ، و حالَا بينه و بين ما ظنَّت به نفسُه ، فـرغَّباه في المال ليُعلِّمهما الكتاب ففعل و ظهر أمر الكتاب ، فللأخفش فضل على بقاء الكتاب – كما يقول الشيخ الأديب الأريب محمد الطنطاوي رحمه الله – و للكتاب فضل على الأخفش ، إذ إقبال العلماء على الأخفش كان بسبب الكتاب لسيبويه .
    ما أرى في هذه الحادثة عبرة و عظة أعظم من حسن النية ، يجب على الطالب أن يُحسن استيطان النية في سبيل طلبه للعلم ، فالله – عز و جل – يعطيك حسبَ نيتك ، فإنه لمَّا أحسن سيبويه – رضي الله عنه – في نيته ، هَيَّأ الله الأخفش لحمل هذا الكتاب ، ثم أرسل الرجلين – الجرمي و المازني – لإظهار هذا الكتاب و يذيع بين القاصي و الداني ، فهذا يحقق ما جاء في الكتاب العزيز ( إن الله لا يضيع أجر المحسنين  ) و قال ( و ما كان الله ليضيع إيمانكم  ) أي : ما كان الله ليحبطه لكم بعدما أحسنتم النية ، و أحسنتم الفعل ، و راقبتم من الوهاب الفضل الكبير ، و العطاء الجزيل .
    لذا يجب على الطالب أن يسترعى الانتباه – دائما – لقول النبي – صلى الله عليه و سلم – ( إنما الأعمال بالنيات و إنما لكل امرئ ما نوى  ) ، فهذه قصة قصيرة ، و حادثة عابرة عند كثير من الناس ، لكنها ليست قصيرة بالنظر إلى ما آل إليه الأمر بعد ذلك ، و ليست عابرة و مضت إذا نظرتَ إلى منافعها ، و تأمَّلت في فوائدها ، إنَّها غَنيَّة بالعظات و بالمعالجات الناجعة لحل مشكلات الكثيرٍين من قاصدي العلم .
    اللهَ أسأل أن يأخذ نواصينا للإقبال نحو العلم ، و أن يوجه عزائمنا تُجاه مآذنه و حرم حامليه ، إنه ولي ذلك و القادر ، و صلى الله على نبينا محمد و على آله و صحبه و سلم ، و الله أعلى و أعلم.

    عفيف إسماعيل يوسف 

    طالب دراسات عليا في اللغة العربية وعلومها- جامعة الأزهر

    __________________
    ١- هذا اسم لـ( إن)  التي في بداية الحديث.
    ٢ – الجَدُّ هنا هو : العظمة ، كما قال الله في سورة الجن ( و أنه تعالى جد ربنا….  ) أي : تعالت عظمته ، و يقول النبي صلى الله عليه و سلم في دعاء الاستفتاح ( سبحانك اللهم و بحمدك ، و تبارك اسمك ، و تعالى جَدُّك  ) .
    ٣ – السن ، مؤنثة ، كاليد ، و لكن لا تظهر عليها علامة التأنيث ، و الدليل على تأنيثها التصغير ، فإنك تقول : هذه سُنينة ، بإرجاع علامة التأنيث.

    Leave a Reply

    Your email address will not be published. Required fields are marked *

    Back To Top