فأين النور ؟؟

    مهما بلغت قدرتنا على التعبير ببلاغة سنكون كاذبين لو قلنا إننا استطعنا وصف حال من يفقد والديه

    لكل إنسان فقد والديه برحيلهما للدار الآخرة وعيناه تقرأ كلماتي الآن :-

    صدقني.. أعرف إحساسك جيداً.. إحساس الحزن الذي يكاد يفتك بروحك.. واللامبالاة التي اعترتك تجاه العالم.. واستصغارك لكثير من الأشياء التي كنت تراها عظيمة وشغلتك عن والديك نوعاً ما.. واستعظامك لكثير من الأشياء التي لم تنتبه لها أو لتلك التي كانت لا قيمة لها فعرفت قيمتها بعد رحيلهما..  

    أعرف جيداً إحساس أن روحك رحلت معهما ولم تترك لك سوى بقايا جسد متهالك متشرد داخل ذاتك _ إحساس أنك فقدت ذلك السور الذي كنت تستند عليه وتتحامى به من غدر الأيام والآن اختفى _ إحساس السراب الذي تراه الآن و كان قبلاً معهما شراب بارد ترتوي منه كلما ظمئت في صحاري التيه _ إحساس أنك كلما حاولت السير من جديد دونهما تنمحي الطريق وتكتشف أنك غدوت مبتوراً بلا ساقين _ وكلما حاولت الكلام تحس أن حلقك مغلق بحجارة العبرات ومسامير الآهة و غابات من العلقم، ولسانك معقود بألف عقدة _ وكلما قُرِعت بداخلك أجراس تفاصيل تُثبت لك حقيقة الرحيل! يغدو صدرك كأنه حقل من الألغام والأسلاك الشائكة يجعلك ما بين الحصار و الانفجار_ وكلما هممت بالبكاء استنكر جزء منك رحيلهما.  

    فتمر عليك كل الصور التي تربطك بهما فتبتسم تارة وأخرى تضيع منك فيك وتتمنى لو أنك تركت كل شيء وأمضيت كل لحظاتك معهما حد الشبع منهما دون أن يغفو لك جفن أو يأخذك سهو عنهما كأنك طفل صغير ، ستتمنى لو أنك لبّيت كل طلباتهما حتى تلك التي لم يطلبانها، وحققت أمنياتهما مهما كانت مستحيلة، ستتمنى لو أنك تملك أن تعطيهما روحك وعمرك وتطلب لهما من الله المزيد، بل ستتمنى لو أنك لم تولد أو أنك مت قبلهما حتى لا تشهد هذه اللحظات المرة القاتلة.  

    هذا هو حالك لأنك محباً وطائعاً لهما وسعيداً ومستأنساً بهما و باراً للغاية، باذلاً جهدك و وقتك وروحك وراحتك ومالك وكل ما تملك في سبيل عافيتهما وصحتهما و راحتهما و رؤية ابتسامة السرور والرضى في ثغريهما .. نعم ستعيش كل هذه اللحظات المؤلمة برحيلهما تفانياً في حبك وشوقك لهما .

    فكيف سيكون إحساسك وحالك لو كنت لهما عاقاً تاركاً مهملاً ناسياً مقصراً زاجراً آمراً ناهياً متأففاً ناقداً حارماً مستفزاً مستصغراً محرجاً كارهاً ناكراً حاقداً وقاسياً عليهما ؟؟ هل ستحس بالفقد والفراق والشوق والحب تجاههما؟

    والله و الله لو كنت تقوم بشيء من هذه الأفعال ولم تتقي الله وتحاسب نفسك وتتوب وتستغفر قبل فوات الأوان وتعود لتعمل صالحاً وتعوضهما عن كل ذلك بكل ما تملك وما أوتيت من جهد وقوة .. فثق أنك لن ترحل من هذه الدنيا قبل أن ترى بأم عينك العقاب الشديد وتعيش أشد أنواع العذاب المقيت بروحك وجسدك، سيمزقك الندم تمزيقاً حتى تكاد أن تبصق دماً على نفسك الحقيرة، ستضيق بك الأرض بما رحبت، وتغلق السماء أبوابها دونك، ويكره الناس وجودك و النظر إليك وسماع صوتك، ستلفظك الحياة ويمقتك الموت، وينطبق عليك القبر .. ولا نجاة لك .

    من كان أبويه على قيد الحياة فلينتهز الفرصة فهم الجنة التي بها سيفوز بجنتين.. جنة في الدنيا وجنة في الآخرة.  

    آباءنا وأمهاتنا هم هدية الله لنا والسبيل لنوال محبته، لا خير في خير لم يجيء برضاهم عنا، ولا نعمة في عيش لا ننعم فيه ببهجتهم وراحتهم معنا.. ولا بركة في حياتنا بدون سرورهم منا، هم طوق نجاتنا في الدنيا والآخرة، مصدر توفيقنا، ختم نجاحاتنا، باب سعادتنا ورزقنا، محظوظ من رزق برّهم و طيّب ذكرهم بحسن خُلقه وجمّل سيرتهم بأدبه وخيره وتقواه، ومشؤوم من خسر رضاهم وحمل وزرهم ولطخ سيرتهم بسوء أدبه و فساد خلقه و شره وعقوقه..  

    أحبتي.. قال الله تعالى في محكم تنزيله ذاكراً فضلهما ورابطاً الإحسان إليهما بعبادته ( وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً) وقال ( ولا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً ) صدق الله العظيم _ ألا يعلمون ما أعد الله لهم من العذاب؟ _ انتبهوا قبل فوات الأوان..

    نحن في زمن المفارقات العجيبة ، زمن اكتظت فيه دور العجزة بالآباء والأمهات فاقدي الولد و السند .. أغلبهم تركوهم أبنائهم بلا رحمة و لا شفقة ولا خوف من الله وكأن شيئاً لم يكن  بينما نحن نستجدي رائحتهم بعد رحيلهم ونستدعيها من كل مكان وكل ركن يحملها ونستنشقها بلهفة في كل شيء مرت عليه أو حظي بلمستهم  نستعطف ذكرياتنا معهم أن تتجدد وتخرج كل ما هو مخزون لديها ، نتوق لو الزمن يعود للوراء ويتوقف عندهم لنبرهم أكثر ونشبع منهم أكثر وأكثر .. لكن قدر الله وما شاء فعل، له الأمر و منا الرضى بما قضى_ وسأظل أكتب بقلمي : قمرين في قبرين في قلبي.. فأين النور؟؟؟؟ و أرد علي و عليكم : الله نور السموات والأرض، ونور حياتنا و قلوبنا وإيماننا _ والنور في موضع الفقد هنا نجده في قوله تعالى ( إنما يوفَّى الصابرون أجرهم بغير حساب) وفي قوله ( وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون، أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة و أولئك هم المهتدون ).صدق الله العظيم .  

    والنور في قوله صلى الله عليه وسلم : إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط ) رواه الترمذي.  

    وموت الوالدين بلاء عظيم وإنما النور في الصبر عند البلاء، والصبر لا يكون بدون حب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم بقلب ملؤه الإيمان بالقضاء فيولد الرضى ويثمر في النفس والروح شجر الصبر و كلما سقي بماء القبول والتسليم بأمر الله كلما ازداد اخضراراً وطيباً  .. فتكتمل هالة النور حول الإنسان وداخله وتمتد تمتد حتى تشمل والديه وهما في رحاب الله ليرفعهما الله بذلك درجات عنده من فضله ورحمته ببر وصدق ومحبة ابن صالح يدعو لهما. وأستغفر الله لي ولوالديّ ولكم ولجميع الآباء والأمهات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات في مشارق الأرض ومغاربها.  

    بقلم نهى إبراهيم سالم

    Leave a Reply

    Your email address will not be published. Required fields are marked *

    Back To Top