وترجع قيمة الإنجاز الشعري للشاعر القمري محمد كليم مزي في قصيدته/ جزر )العطور) التي نشرها في مجلته “القمر” عدد 2010 – إلى قدرته الفذة على إقامة جدلية حية مع الجمال القدسي الذي وهبه الله- تعالى- لأهل الأرخبيل من أشجار وزروع لا تخطب من ناحية ورسمه المستمر لهذا الجلال كأنه يقيم لك عزيز القارئ دراسة تطبيقية لقصيدة صاحبه السابقة (أفريقيا) التي أقامت جدلية نظرية حاسمة لكنوز قارتنا الأفريقية والإنفتاح المستمر على آفاق المغامرة والتجاوز من ناحية أخرى ..!
صحيح لا نعرف أيهما أسبق عن الأخر في اصداع انجازه التاريخي لكن هكذا العمل الأدبي في كثير من الأحيان يغظ الطرف عن جوانب المقارنة أو ما يسمى بالتأثر والتأثير في الحقل الفني .. فالأدب في معياره الصحيح كالطائر الغريد الذي أسلم جناحيه للحرية المطلقة لا يرضى بقيد أو حبس وإن كان ذهبا !
هذه الجدلية الحية مع الجمال القدسي في الأرخبيل وكنوزها التي لا تقل شئنا عن كنوز الأخرين تتنامى وتتعاظم في – مشروع كليم الشعري – كلما تقدمت به الخطى ، وعمق المسار ، واكتملت ملامح الإنجاز ، عندئذ تتحوّل هذه الجدلية إلى مصارحة النفس ومسائلتها عن عوائق الحياة التي تقف حائلة عن بزوع مالي الجزر من أثمان وينابيع .. لغة تكتسب ولع الإفتتان إلى ولع التسائل والإنبهار.
وهي لغة تكشف عن روح وموقف ، وتتجاوز الدلالة الخارجية لمفهوم الصياغة الشعرية بحيث تصبح روحا شعرية عارمة دانت لها الأداء بقدر اكتمال عناصر النضج والخبرة ، وتفجر الوعي الجديد بالحياة وبالشعر .. من هنا يكتسب المشهد الأخير من بائية كليم معناه وحميّاه عن الواقع المعايش في أرض الأخبيل التي تتعدد المصائب والسبب واحد ، وانفصام الشخصية وانبثارها على الرغم من النقع العربي المثار الذي يتنسب به أهله بكل فخر واعتزاز …!
لقد صاغ كليم بائيته عن عطور جزر القمر موجزا عن خيرات البلاد مقدما بهذه السطور :
جزر العطور ترابها يستخصب …….أشجارها وزروعها لا تخطب
أمطارها جلّ المواسم تهطل …….. ومياه باطنها تلذّ وتعذب
وديانها تروي الجداول تارة ………. السيل والأنهار فيضا تسكب
وثمارها تأتي الخريف وفي الشتا……… في الصيف تكثر في الربيع تهذّب
تتنوّع الأشكال في أكمامها ………..حلو الفواكه تشتهي وتحبّب
فكأنما الغابات سقف قد سما ……من سبك ورقتها ترفّ وتقبب
ويروق للرجل البصير مناخها ….. ليلاتها كنهارها لا تحجب
تتبسّم الأزهار حولك بالهنا…….. من طيبها تغري العيون وتجذب
والطير يشدو والبلابل تغرد …… والغصن يهتف بالرياح ويطرب
والشمس تسطع في النهار تخجّلا ….بجمال منظرها تخالها تغرب
تزداد خضرتها وتضفى نضرة ….بأشعة البدر المنير وتخلب
وعبير زهرتها الثمينة فائح ……وايلانغ لانغ شذاؤه لا يذهب
ثم يقول في مقطع آخر من القصيدة كاشفا عن ملامح أهل القمر بعد كنوزها وكرم الضيافة التي تحن للضيف وتفتح له كل الأبواب والأشواق ترحبا به وتبسّما لقدومه بحرارة وشهامة تتناسب .. هذه الشيم التي لم يبخل الشاعر في ذكرها لم تعمه من ناحية عن ذكر شيم نساء الأرخبيل من عفة وطهارة ليست عن دمامة في الخلقة – بكسر الخاء- بقدر ما لهن من جمال قدسي لا يستهان ! :
وقلوب أصحاب تحن لضيفهم …….بحرارة وشهامة تتناسب
وبسيدات تستبقن لعفّة ………وفتاة حسن بالحيا تتأدّب
لكن قصيدة كليم سرعان ما تعود إلى وصف خيرات الأرخبيل وتطغى عليها العاطفة بقدر انسياب العقل في استيراد الكلمات .. ومن قد لا يفعل .. من أرض يفك زراعتها مطر بلا كلل وملل ليجوب في صحرائها من شاء أن يتصيّد ومن شاء أن يتسيّح في شواطئها العملاقة بضمان أمني لا يتغيّب ..
على أن أشد هذه المناظر ايثارا في النفوس تلك الأسماك البديعة الفريدة السيلكانت التي تجوب في محيط الأرخبيل منذ ألاف السنين .. ثم ذلك البرهان الرهيب المتغازل البكر الذي يبهر به الناظر من روعة الجمال و جلالة الرسم والعطاء ..
هذا الجلال الرهيب والمعادن الفريدة التي تضفي ماعند الجزر من خيرات لا تزال أوربا وآسيا في صراع ملفت لإغتصابها وانفضاض بكرتها في ظل نعس رهيب يدب في عيون وعقول القمريين ..!
فزراعة الأرض الثمينة نهضة ……… بالصيّد والحرف الجميلة تكسب
وشواطئ خلابة جذّابة …………….. للسائحين لها وأمن دائب
السيلكانت تعيش في أعماقها ….. منذ السنين عن الأنام تغيّب
ومن العجائب والمشاهد روعة ….. بركان كرتالا ودوما ذائب
تمتاز ثروة أرضها وبحارها …….بكثافة ومعادن لا تنضب
أوروبا واليابان ترصد سفنها ….. لتنال من هذه الكنوز وتغصب
إن هذه الخيرات الجليلة وذلك العدوان السافر مع تراخ مخيف يطل في ذهن القارئ علامة استفهام بغيضة عن حقيقة ما يجري في الأرخبيل ..
أي كأن من يدرك هذه الحقائق الجلية يتبادر في الذهن مايلي : فماهو دور الحكام والشعب في حماية هذه الكنوز والنعم ..؟
من هنا استدرك شاعرنا جوابك عزيز القارئ قبل أن تسل . ..بل يفاجئك بأنه لا أوروبا وآسيا أسدان ولا القمريين نعاج أو خرفان .. جل القضية أنها نقمة السياسة العجفاء التي تزلزل العالم الثالث والعالم العربي على وجه الخصوص من أن عدو البلاد اليوم هم أنفسهم أبنائها لا أقل ولا أكثر .. وإذا كان الأمر كذلك فلاعجب من انفصام شخصية جزر القمر فهي في الحقيقة عربية أفريقية على الرغم من خيراتها وجلالتها !
ياجنة الأرض التي شيطانها ……بشر يوسوس للأمير فيذنب
فإلى متى يأتي العصيّ بتوبة …… ليظلّ في نعم الجنان ويدأب
جي جنّة يلهو بها أصحابها ….. من كيد وغلّ غاشم يترقّب
جزر إلى القمر المضيئ نضيفها ….فصفائها وجمالها متغلّب
بل إنها مأهولة معمورة ……..جزر القمر عربية تتنسّب .
__________________________
هذا المقال كتبه الأديب والشاعر شمس الدين سيد علي الديبواني