كالعادة ترتاد ” سعيدة” مكتب والدها المرفرف بالكتب القيّمة، أغلبها في اللغات والأدب والتاريخ والسياسة والدبلوماسية إلى جانب الكتب الدينية المختلفة حتى أجرّها الفضول نهار أمس الأربعاء بعد ذهاب والدها إلى العمل مبكرا كالعادة إلى اكتشاف هذه الوثيقة القديمة التي احتفظها في إحدى الكتب العتيقة وقد بدت عليها أمارات الشيخوخة، فاستخرجتها بعناية فائقة واهتمام من فورها بقدر ما انخرطت مضطجعة على الأرض وبدأت بقراءتها بصوت منخفض:
الحياة قاسية أحيانا لكنها أجمل مما تظن، وفي النهاية كما تدين تدان !
في عام 1950م كان المستعمر الفرنسي يخطط ويعمل بلا هوادة كي يظل متشابكا في مفاصل الدولة القمرية، متحكما في حياة الناس وآلامهم وأحلامهم ولو بعد مرور السنين الطوال،
كان يعي جيدا أن حياة الجَلْدة والرغيف لن تدوم ، ولكنها حتما ستنقرض تماما وتغور كما انقرض عاد الأولى ،وثمود وصالح ، وألا بد من تحكم حديدي طويل المدى يعيد الأمور بقضّها وقضيضها لتبقى الألوان بحالها مرسومة بأشكال الناس ومصائرهم الأبدية!
وكان السيد ماكس دينيس صاحب الثلاثين عاما، بوجهه الأبيض وعينيه الجهوظتين والأنف الأفطس ، بقامته المتوسطة وشعره الطويل، يرفض النظرات الاستعلائية التي كانت تواجه الشعب الأصيل في كل مكان ، ويأبى إلا أن يطاوع شعوره الذي طارد ليلى ليلة أمس !
صحيح أنها كانت تمتلك جمالا خاصا يتخطى أوصاف بنات حيّها العشرينيّات في باب الجنان، بوجهها الأسمر وشعرها الطويل الذي يصل إلى الأرداف ،لكنها إضافة إلى جمالها القدسي العتيق كانت تمتلك قلبا صافيا وتصورا رائعا للحياة بقدر ما كانت تعتقد اعتقادا جازما أن الحب لا علاقة له بالألوان أو الأجناس !
ويعتقد أن الصدفة هي التي أوجدت السيد ماكس دينيس في جزر القمر، خاصة أن معظم زملائه في البحرية الفرنسية آنذاك تم إرسالهم إلى جزيرة مدغشقر للتعاون في العمل مع البحرية العمانية التي نشطت أعمالها التجارية في المحيط الهندي قبل مجيء الفرنسيين بأعوام كثيرة.. لكنه القدر- دائما- يجرنا – أحيانا- إلى مكان آخر كي يمنحنا حياة سرمدية نطاردها كالأشباه ويظل عنصر المفاجأة دائما سيدا للموقف !
من هنا كان الجنود الفرنسيون يجوبون في الشوارع ويتمركزون أحيانا في أماكن لا تخطر على قلب بشر …. وكان السيد ماكس دينيس بقدرته الفلكلورية الهائلة في التعامل الجيد مع الناس والتكاتف مع الأجانب بشكل خاص، ينوب عن زملائه العاملين في البحرية عند الحاجة لشراء بعض الأغراض و الاحتياجات الضرورية ، خاصة في دكّان موروني الوحيد الذي يبعد عن الميناء بعشرين دقيقة للسائر البطيء !
قبل أسبوع خرج ماكس كالعادة لجلب المستلزمات، و عند مروره بحارة ” متسّنغاني” لاحظ من بعيد ما يشبه بتدافع من ثلاثة جنود فرنسيين مع امرأة سمراء كانت تقاوم بشراسة بينما يحاول الجنودالعبث بشرفها، هنا تسارع الجندي رقم 122 إلى التدخل بضراوة والقيام بدفع زملائه وقال في غضب ماقت :
ماذا تفعلون ؟!
ألهذا تعاملون الناس كالعبيد ..؟
هل تحاولون اغتصابها عنوة.. ؟ّ!
-صاح ما يكل بصوت جهوري :
ما شأنك أنت يا ماكس ؟
– هل تريد أن تجعل نفسك شريفا وبطلا خارقا كما في كتب سقراط وأرسطو ؟ قال ذلك كلودي ماركس وهو يمسح جبينه من شدة العرق!
– في الحقيقة ربما يحسدنا لماذا لا تشاركنا في المتعة بدلا من الصيحة كالكلاب؟!
هكذا قال ذلك ديغول ساخرا وهو مستمر في محاولة نهش الضحية
وانفجر نار الغضب ملتويا من ماكس، ضاربا بقبضة يده اليمنى على وجه ديغول وقال بلا تردد:
من تشبهه بالكلب يا معتوه ؟
تدارك الجنديان الاخريان بديغول وأوسعوه بضربات متلاحقة ومبرحة حتى أوقعوه على الارض هامدا ومنهمكا وهربوا لتوهم جميعا، بينما ليلى تبكي بحرقة على حالها العاجزة عن فعل أي شيء، سوى الدموع التي تنهمر كالغدق …وفي النهاية ساعدته على الوقوف بعد معانا!
وكما يكون النار سببا لدخول بعض الناس إلى الجنة فإن حب ليلى بماكس دينيس انطلق منذ هذه اللحظات الدرامية الخالدة..وقالت في صوت هادر!
– لماذا دافعت عني؟!
– لم أدافعك بشيء وإنما قمت بالواجب ..هل كان لدي خيار آخر ، قال ذلك وهو يمسح ملابس الشرطة الفرنسية من التراب الذي داهمه أثناء الاحتكاك بزملائه .
-قالت ليلى وهي تخرج يدها إليه محيّية : أنا ليلى مرافيلي .. تشرفت بمعرفتك!
– أنا ماكس دينيس من البحرية الفرنسية المتواجدة في سواحل جزر القمر
– لكنك تختلف تماما عن أصدقائك … قالت ذلك وقد بان أسنانها الناصعة بالبياض
– ماذ اتعنين ؟ – لقد كنت تدافع عني منذ قليل بينما أصدقاؤك يحاولون اغتصابي كالدب الذي يفطر من الصيام الطويل !
– الانسانية لا علاقة لها بالأجناس أو الألوان ، ليس كل من يرتدي هذا الزيّ حيوان ّ ماكر كما يتوهّم الشعب القمري!
والحق أن ماكس دينيس قد أعجب بليلى منذ تلك الليلة التي توارى عن أعين الناس، نازلا وسط المدينة، مستمتعا بمناظرها الخلابة ، وملامحها الاخاذة التي تخطف الأبصار ؛حيث يكاد القمرأن يُلمس من شدة ميوله واقترابه بالأرض، والناس في حالة ذهول واعجاب من ابداع الخالق الفريد، في حين أن المعشوقة العجيبة قدمت لتوّها من المدرسة القرآنية عند ناصية الأستاذ/ جوسي ملاناو، لكن السيد ماكس أضمر اعجابه الشديد من قبل حتى لا تصاب ليلى بالغرور وتظن ظنا أن ما حدث مجرد عملية تمثيلية لإظهار نفسه كالبطل أمامها حتى تقع في حبه .
لكن…ألم يكن الأمر كذلك وقد كان بإمكانه أن يهرع دون أن يصاب بمكروه أو يلاحظ بمروره بالمكان .. هكذا ظلت الافكار تراود ذهن ماكس ..!
إنما الحب أعمى ، يتوارى مع خفقات القلب المنيب، مؤمنا بالقضية بأن الكلمة سحر الاحساس وملك للشعور سلطان، هو سيف باتر للمستحيل قطعان، يستضيف ما اختلج في النفوس وصدّقه الشعور.. ويرنو دائما مع انقشاع أول ومضات القمر، ولذلك كان ارماق ماكس بليلى بهذه النظرات الخاطفة التي تجاوزت الدقيقتين شيئا مقدرا ومفهوما يعبّر عن حبّ صادق وحميم، يتجاوز كل الاعراف والتقاليد المعهودة.
كم مرة التقى العاشقان في خفاء حافل بالحب والحنان، ليذوب في سماء الجنون عشق ضاري المقدار؟!
وكم مرة أصيب الناس بالفضول والانكسار فتساءلوا عن حالهما، وانتقدوا تصرفاتهما الغريبة التي تتنافى عن أخلاق ساكني البلاد بقدر ما أصيب آخرون بالغيرة الشديدة من هذه العلاقة التي تجمع الرجل الأبيض بالسمراء، و مضت ثلاثة أعوام وهم على ذلك.
وكما التقى العاشقان بلا مقدمات دق ناقوس الافتراق بلا وداع..! ففي صبيحة أمس زفّ أرجاء الوطن نبأ استدعاء البحرية الفرنسية إلى ديارها في باريس فجأة، ولم يكن أمام ماكس سوى قبول أمر الواقع، و الخضوع لأوامر الأسياد والانقياد لها، وعلى الرغم من أن الشكوك قد ساورته إلا أنه لم يكن على علم أنّ زوجه حامل.
بقلم / شمس الدين الديبواني
حاصل على ماجستير في الأدب العربي