أجسِّدُ لك مشكلة كبيرة يعانيها كثير من طلبة دارسي العربية الشريفة ، قد عاشرتُ عديدًا من الطلبة ، الذين أَحَبُّوا تَعَلُّمَ العربية ، يُجِلِّون أهلها ، و يعظِّمونهم حق التعظيم ؛ للارتباط الوثيق الذي بين العربية و مقام فهم دَعامَتَيْ الدين – الكتاب العزيز و السنة النبوية الشريفة – و كانت دراسة العربية من إحدى الأحلام ، التي كانوا يحلمون بها ، و لكنهم – للأسف الشديد – تخلوا عن حلمهم هذا ، بسبب هاتيك المشكلة التي أعرضها لك بعد قليل ، لكنك بنظرة فاحصة ، و بتَمَعُّنٍ شديد ، و بذكاء حصيف ، ستقف نفسُك أمام مشكلة ضئيلةٍ حجمُها ، لا تستحق هاته الفزعة التي تدفع المرء إلى أن يتخلى هدفًا منشودًا و مثاليًّا كـدراسة العربية ، و التمتعِ بجمال هذا اللسان السحريِّ .
و تلك المشكلة التي ما زلتُ أُشَوِّقك بها هي إحدى المشكلات ، التي يذكرها الناس أنها تقف عقبة كبيرة أمامهم ، تحول بينهم و بين تعلم العربية ، و يرون أن تعلم العربية مرتقًى صعب ، و سُلَّمٌ طويل لا يُدرك منتهاه ، و هي أنهم يعتلُّون بالأمور التي تُثَبِّطُهم في تعلم العربية أن القواعد النحوية و الصرفية و غيرهما تكاثرَت عليهم ، ليس لهم طاقة لاستجماع تلك القواعد المبعثرة في الكتب النحوية و الصرفية و غيرها ، و لو دعوتُك – أيها القارئ الكريم – لتقف قليلا أمام هذا القول ، و تُجلِي فيه نظرك لتَبيَّن لك في أول وهلة أن هذه العلل التي يحتجون بها تبدو لك واهية جدا ، و الذي يدفع إلى ذلك هو أن مثل هؤلاء يسلكون في تعلم القواعد العربية مسلكًا عوجا ، و ذلك أن مَن تجده يقول هذا الكلام يضرب لك مثالا بكثرة أوزان المصادر الثلاثية – مثلا – أو الاحتدام و تصادم الآراء النحوية بين العلماء أنفسهم و كثرة الأقوال ، و تشَعُّب المذاهب و المسالك في تلك العلوم ، و كلها أمور خطبها يسير – إن شاء الله – و معالجتها غير مستعصية .
أقول لك : إن ثمة أخطاء جسيمة برتكبها كثير من الطلبة في سبيل تعلمهم العربية ، و بخاصة في المحال النحوي و الصرفي ، هذه الأخطاء هي التي تجعلهم في هذا الموقف الحرج الصعب ، و في هذا المنحدر الطويل ؛ ذلك أنهم يحاولون أخذَ النحوِ أو الصرف من المسائل المُفَصَّلة و ليس من المسائل المُجمَلة ، فإن كثيرا من الطلبة يسعون وراء الإعراب التفصيلي و هو غير ناضج في هذا العلم الذي يريد أن يغوص فيه ، يريد أن يعرف فاعلا و مفعولا و تمييزا قبل أن بعلم أنه يوجد في علم النحو ما يسمى بالمرفوعات أو المنصوبات ، و ماذا يعني الرفع أو النصب ، كذلك الشأن في الصرف و في جميع العلوم ، و ليس هذا منحصرًا على العلوم العربية فحسب ، فالهجوم على التفاصيل الداخلية قبل أن يتكون لديك ساعد قوي في الفن يدفعك لإلمام كل شيء مع لِفْقِه هو أمُّ العراقيل ، التي يجدها أكثر الدارسين ؛ لأن كل علم – أيها القارئ العزيز – قائم على أساسين ، هما : الإجمال ، الذي هو باب الدخول و النفوذ إلى اللب و الجوهر لهذا العلم ، و الثاني : التفصيل ، الذي أشَبِّهُه بالصلصة القمرية ، يكون لديك عدة أشياء حتى تُعِدَّها ، كالطماطم و السمك – إن كنت من محبي الأسماك – و البصل و الفُلفُل الأسود و القَمُّون و غيرها من الأشياء ، حتى تُكوِّنها في آخر المطاف مكوَّنًا واحدا يُطلق عليه اسم ” الصلصة ” هذا الذي رأيتَه هو الشأن في العلوم ، و لدى العرب قول منثور يقولون : الحكم على شيء فرع عن تصوره ، أي : إنك قبل أن تحكم أو تصدر حكما علي شيء تصورتَ جوانب هذا الشيء ، ثم حللتَ العوائق التي تترتب عليه ، حتى استنبطت حكما يليق بهذا الشيء ، و هذا الذي أقول لك في حال العلوم ، فالتصور هنا هو أن تعرف المسائل الإجمالية أولا ، و حفظك يبدأ من ههنا ، بهذا العرض نكون قد تخطينا العقبة الأولي ، و هي أن يحفظ الطالب مجمل المسائل – أولا – قبل الشروع في المسائل التفصيلية .
و من المؤلفات النحوية التي تقوم علي هذه الدراسة و هذا النهج كتاب ابن هشام الأنصاري – رضوان الله عليه – الذي وضعه خِصِّيصًا للطلبة المبتدئين في المجال النحوي الموسوم بـ ” شذور الذهب في معرفة كلام العرب ” فقد سلك مؤلفه منهجا خاصا مغايرا لمناهج النحويين الذين سبقوه ، فقد رتبه على حسب الموضوعات الإجمالية ، المرفوعات بأنواعها ، و المنصوبات بأنواعها و المجرورات بأنواعها ، كلٌّ في بابٍ مع ما يشاكله في الإطار ، و هو كتاب مفيد لحفظ مجمل الموضوعات النحوية بطريق لا عناء فيها ، و يسهل عليك حفظ القواعد.
و من الطرق للتخلص من عادة الكثيرين – أن النحو متشعب الأطراف – أن يحفظ الطالب المنظومات النحوية ، كألفية ابن مالك الأندلسي ، أو ألفية ابن مُعطٍ و غيرها ، فإن مُنَظِّميها حاولوا الابتعاد عن الجدل الطويل الذي وقع بين العلماء ، و حاولوا أن يُفيدوا الطالبَ بأخصر طريق و أقصرها ، فأثبتوا الفول الشائع الصحيح في المسألة ، و أحالوا على بقية الأقوال للمستزيد إحالة دون إخلال.
و مما يسهل عليك حفظ القواعد النحوية أو الصرفية أن تُديم النظر في كتاب نحوي أو صرفي معين أكثر من مرة ، فإن الإنسان إذا داوم على قراءة شيء بقي المقروء في ذهنه دون جهد ، و هذا ما نتلمَّسه – نحن الطلاب – أن المادة التي نمتحنها إذا ختمتَها أربع مرات أو أكثر تجدك حفظت محتوياتها و مضمون ما فيها دون تَعنُّتٍ و لا إرهاق ، فما بالك إذا جعلت ديدنَ دهرك كتابًا بعينه ؟ !
و لا تظن أن الذي قلت لك مقصور على العربية ، إنا لنجد أهل الشريعة الإسلامية – علي سبيل المثال – لديهم أصول الفقه ، التي يُعنى بها البحث عن الأدلة الإجمالية للشريعة ، ثم لديهم الفقه الشرعي ، الذي يبحث عن الأدلة التفصيلية للأحكام الشرعية ، فـمَن حاول معرفة الأحكام الشرعية من خلال الفقه دون أصول الفقه فلا وصل لبغيته أبدا ؛ لأنها – أحكام الفقه الشرعي – أحكام لا تتناهى ، لا بد من أخذ الأحكام الإجمالية حتى تعرف كيف تُنزِّلها على الجزئيات المتناثرة في تصرفات الناس و الأحداث المتجددة ، هذا- بالضبط – ما شرحتُ لك في هذا المقال ، اعرف – أولا – الأحكام الإجمالية للعلوم اللغوية ، ثم اقتحم على عرصات تفاصيلها ، التي تتنزَّل على جزئيات الكلام.
حتى أكون أكثر وضوحا معك ، أَصرِف نظرك إلي شيء هو أقرب للواقع الذي تعايشه ، حتى يستقيم لك الأمر ، ألا هو : إني علي يقين أنك لا تجهل أن مَن كان على ظهر جواد و أراد أن يصرفه إلى يمينه أو إلى يساره ، فلا سبيل لك إلى ذلك ، إلا أن تستخدم اللجام المربوط حول فمه ، و إلا فكيف يعلم ذاك الفرس الوجهة التي تريد سلوكها ؟ !
و إني على يقين أنك لَمَّا تكون في داخل سيارتك ، لا شيء يدفع السيارة إلي الاتجاه الذي تريد إلا المِقْوَد ، فـزمام الأمر في العلوم العربية و اللجام فيها و المقود هو الذي دللتُك عليه إن أردت الوصول إلي وجهتك التي تريد ، و هذا الذي قلت لك هو سبيل القضاء على ذلك الوسواس الذي يدور في أذهان كثير من الدارسين ، و هو الدواء الناجع لتلك المشكلات التي بَثَثتُها لك في بداية رحلتنا .
اللهَ أسأل أن يأخذ ناصيتك إلى المعارف ، و أن يرشدك إلي المنافع ، و أن يعلمني و إياك ينابيع فصاحة هذا اللسان العظيم ، و تذوق أسلوبه العالي ، و أن ينفعك و ينفع بك !
عفيف إسماعيل يوسف
طالب دراسات عليا في اللغة العربية وعلومها- جامعة الأزهر