من أساليب العرب

    النباهة في كلام العرب ، و البلوغ إلى قمم الفصاحة أن تحذق نفس المرء التطلع على تَسلُّق سُلَّم الأساليب العربية ، و أن يديم نظره لإعمال فكره في ما رجم به عقلُه ، و اقتطفه فهمُه ، و خير سبيل لتحقيق هذه البُغية أن يستجمع الطالب قوته لفهم ما كتبه العلماء عن جميل هذا النشيد ، و حلاوة هذا الضَّرَب .
    و إن أردت أن تحقق صدق ما أخبرك به ، و تستأنس طلاوة منازل الكلام ، فتتحرك بلابل قلبك ، و تذوق العسل الذي لا يرتشفه شيء من بُنيانك مما أحاط بك من الجوارح إلا قلبك الذي هو وعاء كل جمال لا يقدر اللسان الجارح أن يجسِّمه ، يدركه ضميرك ، ثم ينبعث  في أرجاء أَسرِك ، فانظر إلي هذا الذي خَلَّده علم النحو ، و في ما كتب البيانيون ؛ لترى الجمال الحقيقي لمعنى أن يكون للروح حياة ، و أنَّ مِن مستلزمات الحياة الطعام ، لتدرك أن غذاء الروح هو الكلام العالي ، فـتدبر معي فيما كتب النحوي الجهبذ ، و المحقق العالي كعبه في المدرسة البصرية الإمام ابو العباس المبرد – رحمه الله – في باب ( ما لحقته ( إنْ ) و ( أنْ ) الخفيفتان في الدعاء و جرى مجراه ، إذ قال  :
    تقول : أمَا إن غفر الله لك ، و إن شئت : أمَا أنْ، على ما فسرت لك في ( أمَا)  أنها تقع للتنبيه ، و تقع في معنى قولك : حقًّا ، فالتقدير : أما إنه غفر الله لك. أ – هـ
    قلتُ :
    إنه قد دلك بكلامه هذا على أمور أجملها لك في النقاط التالية :
    أما الأولى : فقد بين لك أن ( أمَا)  في الاستعمال على ضربين :
    1 – أن تكون بمعنى التنبيه ، فتكون كـ ( ألا)  الاستفتاحية في الجملة ، لا يتعلق بها حكم من الكلام الذي يأتي بعدها ، و يكون إعراب ما بعدها في موضع الابتداء ، فـتكسر همزة ( إن)  بعدها.
    2 – أن تستعمل ( أمَا ) استعمال ما له حكم في الجُمَل بأن تكون على معنى ( حقا  ) فيكون ما بعدها واجب الإحلال في موضع من مواضع الإعراب فتفتح همزة ( إن ) .
    3 – أن المثال الذي ذكره يشمل أربع صور ، هي :
    أمَا إن غفر الله لك – أمَا إن يغفرُ الله لك
     – أمَا أن غفر الله لك – أمَا أن يغفرُ الله لك.
    قال :
    فإن قلت : فكيف جاز الإضمار و الحذف بغير عوض ؟
    فإنما ذلك لأنك لا تصل إلى ( قد)  لأنك داعٍ ، و لست مُخبرًا ؛ ألا ترى أن الإضمار قد دخل في المكسورة لهذا المعنى ، و لا يدخل فيها في شيء من الكلام.
     أ-هـ
    حاصل كلامه في النقاط التالية :
    1 – تعرضت ( إن  ) لأمرين ، أحدهما : أنك أضمرت اسمه ، فالتقدير : إنه ، و الثاني : أنك حذفت منها شيئا ؛ لأنها لا تصير حفيفة إلا بحذف إحدى نونيها ، ورهذا يُوجب العوض لها ، و لكن لم تُعوض.
    2 – أن التعويض الذي تحدث عنه هنا هو إتيان ( السين أو سوف أو قد أو لا   )  قال سيبويه – رحمه الله تعالى – :
    و أما قوله : أنْ بسم الله ، فإنما يكون على الإضمار ؛ لأنك لم تذكر مبتدأ أو مبنيا عليه ، و الدليل على أنهم إنما يخففون على إضمار الهاء ، أنك تستقبح : قد عرفت أن يقولُ ذاك ، حتى تقول : أن لا ، أو تُدخل سوف أو السين أو قد.  أ – هـ
    فهذه الحروف نوع من العوض.
    3 – أنبأك العلة التي من أجلها أضمرت و حذفت و لم تعوض أن ذاك حصل لمَّا كنتَ غير قادر على جلب ( قد)  في هذا الموضع ؛ لأن هذا الموضع موضع دعاء ، و لو أنك جلبتَ ( قد)  فيه لكنتَ مخبرا و لم تكن داعيا ؛ لأن ” قد ” للتحقيق ، و هذا يكون في الإخبار بالأشياء الحاصلة التي وقعت أحداثها ، و الدعاء إنشاء فهو كلام لمَّا يتحقق وقوعه بعدُ و إنما يُرجى أن يحصل.
    و قال :
    و تقول في المستقبل على هذا المنهاج : أمَا أن يغفرُ الله لك ، تريد : أمَا أنه ، و إن شئت : أما إن يغفرُ الله لك ؛ لأنك لو أدخلت السين أو سوف لتغير المعنى ، و كنت مخبرا ، و لو أدخلت ” لا ” لانقلب المعنى ، و صرت داعيا عليه ؛ فلذلك جاز بغير عوض.
    زبدة أحكام كلامه  :
    1 – أن المانع الذي يمنعك أن تجلب السين او سوف أو قد أو لا في هذا المقام أنك إذا فعلت ذلك انقلب المعنى عن وجهه فصرتَ مخبرا بعد أن كنت داعيا ، بل لربما كان المعنى الدعاء على الشخص الذي تخاطبه او تخبر به .
    قال :
    و لما كانت المكسورة تُحذف بتثقيلها مع الضمير في هذا الموضع ليُوصَلَ إلى هذا المعنى ، و لا يقع ذلك فيها في شيء من الكلام غيرَ هذا الموضع كانت المفتوحة أولى ؛ لأن الضمير فيها مع العوض.
    فحوى كلامه  :
    أنه لما كانت ” إن ” المكسورة الهمزة تُخفف مع حذف ضميرها في هذا الموضع ؛ لأجل أن نبلغ إلي هذا المعنى الذي نريده في هذه البابة ، و ليس هذا مما بقع في ” إن ” في شيء من الكلام إلا هذا الموضعَ كانت ” أن ” المفتوحة أولي أن يُحذف ضميرها و أن تخفف ؛ لأن الضمير في المفتوحة مع الوضع ؛  لأن ” أن ” عوض للجملة التي تليها ، فأصلها أن تكون مصدرية و تحول الجملة بها إلي المصدر.
    فانظر – يرحمك الله – إلى هذا الجنى الطيب ، و إلي هذا الثمر اليانع ، و انظر هل تدرك إلي كَنه هذا التفنن إن لم يكن شغلك الشاغل أن تقفو هذا الطريق ، و تحذو حذاة أهل المعارف و الفنون ،حتى تجتمع فيك طوائف الفصاحة و البلاغة.

    عفيف إسماعيل يوسف 

    طالب دراسات عليا في اللغة العربية وعلومها- جامعة الأزهر

    Leave a Reply

    Your email address will not be published. Required fields are marked *

    Back To Top