لن تعدم أن تسمع بين فَينة و أخرى كلمة تنساب من بعض الناس يتهمون العربية بالصعوبة ، أو بالجمود و بأنها لا تواكب عصرَنا الحاضر – عصر التطور و التكنولوجية – و ينخدع خَلقٌ كثير من أبناء الجِيل بهذه المقولة ، دعني هنا أوجه إلى أبناء بلدي – إخواني و أخواتي – جميعا – و بخاصة الذين أثَّرت فيهم الثقافة الفرنسية الوافدة ، و أُشربوا في قلوبهم المقولةَ الذميمة ، و شُوِّهَت أفكارهم بالثقافة الغربية ، سمعناهم كثيرا يتبجَّحون بألقاب يطلقونها على العربية الشريفة ، كـقول بعضهم : إنها لغة نفطٍ و ليست لغة علم و تطور ، و هذه أباطيل لا تتفق مع العربية الشريفة ، دسَّها عدوٌّ في آذانهم ، و شيَّد بناءها في قلوبهم.
العربية – أخي الكريم – ليست صعبة كما تتخيلها ، أو يُرَوِّج بعض حدثاء السن ، أو الذين تشبعوا بروح الثقافة الغربية ، إن العربية تتمتع بأقيستها المطردة ، و تُعرف لدى الباحثين اللغويين بتوسُّعها و ثرائها المادي و المعنوي ، و بأنظمتها التي تشد بعضها بعضًا ، كيف تُتَّهم بهذه الطريقة!!
دقَّت أسماعَنا كلمةٌ صارت في الناس كالمثل السائر في الركبان ، يقولها العالم منهم ، و المثقف ، و العاميُّ الذي لا يفرق بين فاءٍ و قاءٍ يرون أن الإنكليزية – مثلا – أسهل في التعلم من العربية ، و أسهل نطقًا من العربية ، و هذا من أعجب الأمور ، و لا يمكنني أن أقول أكثر مما قال به الطنطاوي – رحمة الله عليه – واصفًا الإنكليزية فيما معناه أن هذه اللغة – الإنكليزية – ليس لها قياس مطرد سائد ، و هي عاجزة في ذاتها ، لذلك تستمد من الفرنسية و الإسبانية و العربية و من غيرها ، و هي لا تزاا في تقلب دائم لا ينتهي ، فالرجل الإنكليزي اليوم لا يفهم نصوص الرجل الإنكليزي القديم ، و الإنكليزية التي كانت في عهد شكسبير هي بالنسبة إلى الرجل الإنكليزي اليوم تُعد ألغازًا ، ثم إن النطق فيها ملتوٍ التواء غريبا ، و لكن صار الناس يميلون إليها ، و يستحسنونها ؛ لأن أهلها و متحدثيها فرضوها على ربع سكان العالم ؛ و بحكم أنها لغة التكنولوجية الحديثة ، أما أهل العربية فقد ربعوا و لم ينهضوا بتعليمها الناسَ ، بل صار بعضهم يحاربونها في الداخل ، فالعربية كاملة غانية بذاتها ، و من حيث أقيستُها ، و تعلم العربية عندي أسرع لأمور :
الأول : إن النظام في العربية قائم على تسلسل المعاني ، أي : المعاني في العربية لها جذور تُشتق منها ، و يمكنك إرجاع المعاني المختلفة إلى أصل واحد ، و إذا قال قائل : هذا نجده في غير العربية ، قلتُ : لكن ليس بالاطراد ، و نحن ها هنا نتكلم نظاما سائدا شاملا.
الثاني : إن أكثر المعاني في غير العربية قائمة بذاتها ، أي : كل كلمة تؤدي معنى معينا من المعاني ، و هذا أصعب نظام التعلم يُتعب الدارس لغةً من اللغات ، و إن وُجد النمط الأول في بعض اللغات ، لكن الغالب في لغات العالم المعروفة هو النمط الثاني ، بيد أنه يُعرف في العربية أن الكلمة الواحدة تؤدي أكثر من معنى ، قد يصل للكلمة الواحدة إلى ما فوق عشرة معان على الأقل.
الثالث : إن النطق العربي أقرب إلى ألستنا – نحن القمريين – من النطق الغربي ؛ نظرًا لثقافتنا الإسلامية الإفريقية ، و يكفي أن لغتنا القمرية استعارت من العربية مفردات هائلة ، صارت من ضمن قواميسنا اللغوية ، نتكلم بها دون شعور منا و لا انتباه لأصولها العربية.
أما ما يقال عن العربية بأنها جامدة لا تواكب العصر الحديث ، فـنحن أحق بطرح سؤال على من ادعى و زعم مثل هذا المزعم ، في أي جانب من الجوانب المعيشية ، أو التكنولوجية خفقت العربية أن تمد لنا يد العون ؟
ليست المشكلة في العربية ، بل في متكلميها ؛ لأنهم الذين لا يخترعون و لا يصنعون ، و مع ذلك ما من صناعة صُنعَت أو استُحدثَت إلا و وُجد لها في العربية خير تسمية ، فلماذا نظلم العربية بهذا الشكل المزري ؟ !
و لو صارت العرب ينتجون و يخترعون كما تفعل الغرب لأضحت العربية – أيضا – لغة تكنولوجية ، فإذا قال قائل : نتلمس الصعوبة من خلال قواعدها ، قلت : لا أنكر أن متأخري النحاة قد زجوا مسائل فلسفية في استنباطاتهم القواعد ، و في شروحهم ، لكنها ليست عائقة أبدا أمام القاصدين نحو كعبة العرب ، و من اطلع على قواعدها يعرف ذلك.
فأنت – أيها الشاب المقبل على العربية – لا تُصغ إلى كل ما يقال ، و لا يغرنَّك أن تسمعه من الفلان المثقف ، فإن الذي أخَّر جيلنا هو استمالت قلوبهم لكل ما يقال ، و أصبح علم أحدنا نقولات ينقلها من الفلان و العِلَّان ، و لا يحاول أن يتعب نفسه قليلا لاستخراج مسألة ليفهمها ، أو يتعلم منها ، أيَّدك الله في مبتغاك بنصره ، و سدد خطاك ، و ألهمك الصبر و السلوان على ما تلقى في سبيل جهادك ؛ لرفع أمتك و دولتك !
عفيف إسماعيل يوسف
طالب دراسات عليا في اللغة العربية وعلومها- جامعة الأزهر