نفترض أنك شخصا مهما ، استطعت أن تقدّم انجازا فريدا ومفيدا للبشر، وجاهدت في ابراز ما في جعبة هذا الإنجاز من كنوز وثمرات وينابيع ، حتى شهد بذلك القاصي والداني على السواء ، وخلال تلك المرحلة المهمة من تاريخك نلت عديدا من الجوائز المحلية والعالمية، وكرّمك شعبك ودولتك ، واهتمّ المسئولون بأعمالك وتصوّراتك ، ولا تكاد الصحف والإذاعات تذكر شيئا إلا انجازاتك وأعمالك العظيمة ، وبتّ على ذلك مثالا يحتذى عبر الأجيال. !
وعلى النقيض سهّرت الليالي كلها والأيام من أجل أن تقدّم شيئا جديدا لدولتك والناس حتى استطعت أن تتوصّل إلى ابداع يبدو في نظرك أنه شيء مغري للغاية ومجدي ، و كابدت عناءا كبيرا بعد ذلك لتوضيح حقيقة هذا الإنجاز ودواعيه المختلفة ، وما يمكن أن يُفيد البلاد ومستقبلها المعقود ، فنظّمت عديدا من المحاضرات والندوات والمؤتمرات ، وأنفقت كثيرا من طاقتك ووقتك و مالك الخاص في السفر شمالا وجنوب الوطن ، لكن بلادك – بالأسف – لم تهتمّ بك ولم تمنحك أي شيء سوى اللامبالاة والازدراء من عقلك وحياتك ؛ لم تقدّمك أبدا كنموذج يحتذى به كما حدث مع النموذج الأول ، لكن ذلك لم يصبك بأي يأس أو أذى بقدر ما تفهّمت حقيقة عقلية المجتمع والمسئولين حتى وافتك المنية بعد حياة حافل بالعطايا المطوية قصدا أو جهلا من المسئولين ، لكن المجتمع بعد موتك قام عن بكرة أبيه ولم تقعد الدولة في بيان الإنجازات والإبداعات والإشادة بأعمالك واختراعاتك التي بلغت عنان السماء أخيرا بقدر ما تبادرت إلى اعلان مراسم دفن رسمية لك، واطلاق عديد من الألقاب والمجاملات والأمداح أثناء تشييع الجنازة ، ومنحتك الأوسام العظيمة التي لا تمنح إلا للشخصيات السياسية الكبيرة – وكل ذلك حدث عقب ذهابك بعد أن لم تكن في حضورك شيئا مذكورا ، ماذا تفضّل إذن في النموذجين السابقين ؟!
هل تفضل أن تتهادى الدولة إلى انجازاتك وابداعاتك وأنت حي تُرزق ، وتشعر بهذا الحب الجليل وذلك العشق الكبير وسط أهلك وأبناء شعبك ، وتحقق حلما لطالما سهرت من أجله أياما أم تهمّك فقط كلام النّاس بعد موتك و إشاداتهم وترحيباتهم ؟
الإختيار الصحيح واضح لا يختلف عليه اثنان، أما التشبيه الثاني فهو يلخص الحالة التى حدثت مع أديب جزر القمر الشاب سالم خطيب الذي وافته المنية قبل أيام :
الأديب هو سالم خطيب ، والدولة التي لم تكترث بالإنجازات والإبداعات إلا بعد وفاة المبدع هي حكومات جزر القمر ، والأيام التعيسة التي يعيشها أدباء جزر القمر والمثقفين الحقيقيّين لا تقلّ خطورة عن الأيام التعيسة التي عاشها وخاضها سالم خطيب في سبيل البحث عن الشخصية القمرية المتغيبة ؛ سالم وضع حياته كلها رهينة للثقافة القمرية المرمية ، يثير غبارها ويستنفرها ويسترشدها من حين لآخر ، يلين المستنقعات ويعلن الحرب على الغباوة والجهالة ، سالم لم يفعل كمدعي الثقافة الذين يفرشون أزاهرهم على أعتاب باريس ويخفّون الطرف عن مساوئ البلاد ورغباتها المعدومة ، أو جلسات النقد السابحة تحت أجنحة الممولين، أو الأمداح التي ضمرت الحقائق والمساعي ، لم يكن كهؤلاء يوما ، ولم يسع إلى ذلك سبيلا ‘ وضع قلمه على الجمرة حين فصّل القول عن مساوئ الاستعمار وحراكه الساعي إلى كمد الثقافة الوطنية أو اختزاله ومن ثمّ قتله كأن لم يستغن بالأمس ، سالم زرع في قلوبنا الوطنية والإنسانية وحارب البلادة والسفالة، تغني بالقمر المنير ليلا وقاوم الظلام والرقص على أوتاد الغرب ومجالسهم ، انتقد السياسة القمرية التي تفقأ العين دائما بكل جلاء ، وناصح الواعي والمستفهم ، لم يترك فصلا من كتاب الوطن إلى ملئه حروفا من ذهب ، أو شعورا في جسد المواطن إلا فاضه بدواء ، لقد كان شاعرا وناثرا ومغنيا ، شاعرا يصقل الإحساس و المشاعر ويثري الرؤية ويستلهب النوايا والعزم ، استثار فينا بالنثر الجميل الذي يستلهم الحياة الفنية على الواقعية ، لم يولّ عنها دبره يوما بقدر ما كان قائدا في الحرب مغوارا ، تغنى و الربيع وزنابقها التي تزيّنت مع الخيال الخصب أو الاندفاع المرهف ، ناضل القمع والاستهبال ، والهرش بآلام الفقراء … أدرك تماما أن الأدب هو حياة على الورقة تشبه حياتنا اليومية على الأرض ولكنها أكثر دلالة وعمقا وجمالا ” كالطائر الغريد الذي أسلم جناحيه للحرية المطلقة لا يرضى بقيد أو حبس وإن كان ذهبا ..”
استنطق الأخرس سالم وهو حديث ذو شجون وأسمع من به صمم ، لم يكن يوما إلا شمسا ساطعا أو ودقا يخرج من خلال أو جاع البلاد؛ وأي وضع كان فإن دلالته له وقع خاص و مثير ومرعب من ناحية أخرى .. مثير لأنه يغطي ويثري ويحقق طموحات الأديب بعد مجهود .. ومرعب لأنّه تتحتّم عليه رؤية الحقيقة من حيث زاوية ثقلها ومرفأها الحقيقي ..وهكذا عاش أديبنا منذ عام 1972 إلى 2015 يشجّب المنكر ويدعو إلى المعروف والفضيلة ..
وعلى النقيض فإنّ الدولة القمرية قد دائبت على استجهال الثقافة والإبداع والاهتمام فقط بالمنافقين الذين يحققون مكاسبها السياسية النيّئة ، سالم خطيب نموذج لعشرات المبدعين الذين لا يُعرفون حتى يكرمون بقدر ما استرقّ الأضواء الفاشلون الذين يتوهّمون أنّ النباح السياسي أو الفصاحة الفطرية ، أو القدرة على سرد الألفاظ المختارة بعناية دون تقديم رؤية معينة لدليل على النبوغ المعرفي أو الإبداع حتى باتوا هم المقدّمون علميا واجتماعيا وسياسيا وإعلاميا ..
بعض المثقفين الحقيقيين والمبدعين هاجروا البلاد وأعلنوا سخطهم على الغباء ومخادعة المواطنين ، لكنّ سالما أبى إلا أن يكون التغريب وسيلة لا غاية للإبداع والقدرة على مواكبة الأحداث بعيدا جدا عن حجيج العاصمة التي تسرق الضمائر وتميت الشعور ..
لكن سؤالنا يجب أن يكون لماذا كرّمت الدولة القمرية سالما بعد موته وجعلت مراسم دفنه رسمية ؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال الخطير لا بد أن نعرف ونفهم الوضع الراهن في البلاد ..:
جزر القمر تعيش الأن في مرحلة سياسية فاصلة تكاد تسرق الأنفس أو العقول ، كل يوم يحدث أمر سياسي جديد لم يتوقع حتى صارت سياسة البلاد سياسة المفاجئات أو الخيانات .. ،
ومدينة كاتبنا هي هاهايا التي تعدّ من أكبر المدن القمرية من حيث الكثافة السكانية وموقعها المهمّ الرائد ، وبها مطار جزر القمر الدولي إلى جانب مليبان التي تنتسب إليها أم سالم وبها أخص سالم كتابه المشهور عن المدينة .
الدولة القمرية تحارب وتعمل وتسعى من أجل حفظ ماء الوجه وكسب ثقة الشعب التي وهبتها للمعارضة عن طيب خاطر طويلا ، وظهر ذلك جليا في الانتخابات الاستشارية والتشريعية الماضية، والبلاد مقبلة على انتخابات رئاسية عام 2016 لن تقلّ خطورة أو مفاجئة عن الماضية حتى سخرّ البعض من المقولة السياسية الشائعة – من تقدّم تقدّم – وعلى ذلك فإنّ كل القوى السياسية تعمل من أجل وضع أقدامها على المدن ، حتى قال البعض أثناء تشييع جنازة الفقيد : من هو الرئيس الحالي .. أ هو مويني بركة صالح – الذي ما هو إلا محافظا للقمر الكبرى – ، أو ممادو – الذي ما هو إلا نائبا للرئيس عن الجزيرة أيضا – أو إكليل ظنين الذي يفترض أنه الرئيس الحقيقي للبلاد ، وما ذلك إلا لمحاولة كل واحد منهم اثبات قوته وجدارته في الرئاسة لاسيما ممادو وموني بركا اللذان يخوضان معركة سياسية ضارية أشبه كأنها حرب من أجل البقاء .. وعلى ذلك استفهم البعض عن حقيقة هذا الاهتمام المفاجئ لإقامة مراسم رسمية للكاتب الذي يستحق أكثر من ذلك بكثير .. هل ذلك من أجل تكريم الفقيد أو متاجرة المناسبة لمعركة سياسية قادمة .. ؟
سالم كغيره من الأدباء تمنى أن يصل صوته إلى الشعب وتترجم أقواله إلى أفعال .. هذه أكبر أمنية لأي كاتب لا مجرد احداث ضجيج بلا طحينة !
لسالم العشرات من الكتب التي استنهضت الثقافة وقاومت البلادة ..كم يتمنى أن تترجمها وزيرة الثقافة إلى أفعال حتى تصل إلى الشعب .
يوجد في الجزر أكثر من سالم مغمور ينامون على أوجاع البلاد ويستيقظون على أرصفها ؛ لا أحد يهتم بهم أو يكاد يطرح على أفكارهم أي سؤال ، بل فضّل بعض المبدعين الاعتصام إلى ركن بعيد حتى يموت بسلام ولا يدنس يده أي نفاق .. هؤلاء المبدعون في رقاب الدولة حتى تسمع إلى أنينهم ، ولكي ينام سالم في مرقده بسلام ..
إن جزر القمر غنية بالمبدعين الوطنيّن لكن الدولة حتى الأن لم تختبرهم بقدر ما يبدو أن هناك سياسة قائمة على قتل مواهب الشباب وتزوير ضمائرهم وردم إرادتهم وإصابتهم بالإحباط الشديد حتى لا يقدروا على الإنتاج من جديد ،
وهذا في حد ذاته لأمر عجيب .. فالدول المتقدمة تعمل ليل نهار على تشجيع الموهوبين لا سيما الشباب منهم حتى أنّ فرص العمل تقدم أولا إليهم قبل المعمٍّرين ..أما الأمر في جزرنا الحبيبة فكيت وكيت إلا نادرا..!
ولذلك لن تكون لنا قيمة أو وزن حتى نعتبر الإبداع و القدرة على العطاء جزءا من سياستنا العظيمة ولن يكون الأمر كذلك حتى ترزق البلاد بحاكم عدل يخاف الله في وطنه وشعبه وماله ومستقبله .. وهذا مبغى دعائنا ورجاءنا إن شاء الله … الاستقلال هو الحلّ
شمس الدين الديبواني