سَـــــلَّ الزَّمَانُ عَلَيَّ عَضْبــَـهْ
لـِـيَرُوعَني وأَحَــــــــــدَّ غَـرْبــَهْ ١
واسْـتَـلَّ مِـنْ جَــفْـنِــي كَـــــرَاه ُ
مُرَاغِمًا وأَسَــالَ غَــرْبــَهْ ٢
وأَجَـــالَنِي في الأُفـــْقِ أَطْـــــــوِي
شَرْقَهُ وأَجُوبُ غَـــرْبـــَــهْ٣
فَبِكُلِّ جَـــــــــــــــوٍّ طَلْعَــــــــــــةٌ
في كُلِّ يَــوْمٍ لِي وغَــرْبـــَــهْ ٤
وكَذَا الـمُـغَــــــرِّبُ شَخْصُـــــهُ
مُـتَـغَـــــرِّبٌ ونَـــوَاهُ غَـــــرْبــَــهْ ٥
من مقامات أبو القاسم الحريري:
وهو القاسم بن علي المعروف بالحريري.. توفي ٥١٦ هجرية.. والمعروف أن الحريري وبديع الزمان الهمذاني هما من منحا المقامات في الأدب العربي مكانة لايستهان بها، وامتلاكهما للأدوات اللازمة مع تفوقهما التام في اللغة وخوض غمارها بإحتراف جعلاهما متفردين في التسجيع و اللعب بالألفاظ وزخرفتها..ورسم وتصوير المواقف وابتداع الأحداث بشكل ممتع مبهج لطيف يطوف بالمستمع في عالم من الدهشة و الإستظراف والإستلطاف لهذه المقامات.. وقيل سميت بالمقامات لأنها انتقال من صورة لصورة ومن حال لحال ومن مقام لمقام .
ومقامات الحريري من أروع أروع أروع ماخطه شاعر .. تجمع بين غرائب الشعر وفرائده .. هو ومقاماته بلاشك غنيون عن التعريف .. وقد راقني في رائعته هذه بحر افكاره الواسع، وخياله الممتد، ودقة معانيه، وحياكة بيانه ومبانيه، والتزامه بجرس موسيقي حريري رقيق وخفيف وناعم … لاسيما وقد جملّها وزيّنها بالقافية المشتركة .. متفقة في المبنى ومختلفة في المعنى مما أضفى عليها جواً لطيفاً للغاية يقودنا للفضول … وهذا شرح مبسط للأبيات ليسهل علينا تذوق حلاوتها .
في البيت الأول يقول : ْ جرَّد الزمانُ عَلَيَّ عضبه أي سَيْفه لكي أخاف وسنَّ غَرْبـَـهُ — والغَرْبُ هنا يعني حَدُّ السَّيفِ .
وفي الثاني : أَيْ وانْــتزعَ من جفني نـومَه أنتزاعاً مُغَاضِبًا وأَسَال غربَه أي أجرى دمعه وغربَه هنا تعنى مجرى الدمع .
ثم انتقل للبيت الثالث برفق قائلاً : طافَ بي في الأفق أطوِي جِهتُه من الشرق وأجوبُ جِهتُه من الغرب.. إذاً يقصد هنا الإتجاه.
ثم في الرابع يقصد أن له في كلِّ مكان أو جو طلعةٌ كالشّمس وغربةٌ كَــغُرُوبِها .
ثم ختم بما معناه .. وكذلك المتغرّبٌ في شخصه، يكون غريباً والجِهَةُ التي يَنْوِيها غربةٌ أَيْ بَعِيدة .
– الأبيات تحفزنا على سبر أغوار اللغة العربية واكتشاف خبايا الجمال فيها ومتعتها الحقيقية …وتحتمل عدداً من التفاسير والتأويل وهذا ما يجعلها لغة ساحرة.
بقلمي _نهى إبراهيم سالم