سكان الرمال: مقالة أدبية

    بقلم الأديب / شمس الدين الديبواني
    أدركت فعلا أنّي في حاجة إلى الكتابة، إلى محاربة اليأس، وممارسة هويتي  التي أعتز بها، وهواجسها  التي تدبّ في ذاكرتي ليل نهار بلا استسلام، وتخايلي بين الحين والحين على  غد أفضل، ومريح، وازداد هذا الإحساس العجيب يوم أمس،  يوما كاملا في التفكير، والتقليب من فكرة لأخرى، لكن بلا جدوى، ولا آمال، هناك أحداث جسام، وعظام، وحكايات وقصص أكثر اثارة، وجدية،  من مراحل سقيمة، عقيمة، متشابهة، لن تميد، و تفيد، ولن تعيد الأمر إلا صورته الأولى.
    رميت القلم على المائدة، يمين المكتب، كأني لن أحتاج إليه أبدا، وكشرت خارجا عن العمل، وتنّمرت منهمكا، ومتأخرا كالعادة.
     كانت الشمس تميل إلى الغروب، وقد شرع المطر في الهطول، علي أيكته بسمات العباد، من طول الجدب والاستسقاء، مشيت خطوات في ساحة وزارة  عملي، حتى تبللت أجزاء قليلة  من ملابسي الفرنجية الجديدة، واستوقفت ” التاكس”  أمام  الباب الموازي تمام الشارع الرئيسي الجامع لشوارع ” موروني ” ، حيث الازدحام  على آخره سيّد الموقف، ومطية للركاب، والعاجزين، في  ساعة كاملة أمضيناها على الطريق  العام المؤدي إلى مدينتي،( كواريهوفا)، بدأ وبدى النعاس نوما عميقا،  يسرد أفكاري بلا اقتضاب، ويسرف في تحقيق  ما أصبو إليه وقد عجزت عنه مسبقا…” صحيح أنّي علّقتها عرضا، بقدر ما كنت عاجزا أمام جمالها الذي يحمل في طيّته كل أوصاف الإبداع الإلهي؛  فصورتها تعكس جمالا من نوع خاص، لا ينبعث من الشهوة، أو الغواية، بقدر ما يفيض بحنان أمومي تليد، ثمة رقة أخاذة ووداعة ملائكية في ملامح وجهها، والابتسامة التي تدغدغ سنانها الناصعة، تجعل الفارس المغوار  فاقدا للسيطرة، و عاجزا عن المقاومة أمام هيئتها الآخذة إلى خفقان القلب، وفريسة سهلة لإرادتها القوية، وعزيمتها، واستعدادها الكامل للتضحية من أجل الواجب، وقد تداعت هذه المرتكزات في سكينة واستقرار  لا ينضب.  
     لكنّي هذه المرة لم أفكر في العواقب البتة، كنت كمن يجد نفسه في مأزق، في سيارة هالكة فيلقى بنفسه على الشارع رغبة في النجاة؛ قلت في وجهها مباشرة :
    • أتعلمين عزيزتي مدعى مروري هذا المكان عصر كل يوم؟
    • كلا..!!
    • من أجلك لا غير
    • لا أفهم..ماذا تقصد؟
    • أنا معجب بك ومستعد أن أقدّم لك كامل حبي ورعايتي واحترامي…أريد أن أتزوّجك…من غيرك شاغل بالي؟!
    • أنت لا تعرفني..؟
    • كلا..أعرفك تمام المعرفة، وأنا مصمم على ذلك.. أريد أن أتزوّجك  
    • وبدى عليها السخط من هذا الموضوع، وقررت أن تذهب
    • لا تذهب من فضلك يا سمية.. من فضلك لا تذهب.. من فااااااضلك “.
    وفجأة ترددت كلمات سيدي في أذني ..بعد أن كادت  أن تصغي علىّ :
    • سيدي وصلنا .. سيدي  وصلنا إلى البلدة … ماذا تقول  يا سيدي  من الذي لا يذهب.. أتغفو  يا سيدي ؟!
    • ماذا ..؟!
    • كنت تقول كلاما غريبا سيدي
    • أو قد وصلنا بهذه السرعة
    • كلا لم نصل بسرعة
    • طيب ..
    لم أتجادل مع سائق ” التاكس”  لما أعطيته ورقة مالية ليأخذ منها  الاجرة  مع ادراكي  ووعي الكامل  أنه أخذ قليلا  من حقه، عموما وصلت إلى البيت والحمد لله..!
    ……
     رأيت أمي وما أن رأيتها  إلا وشعرت بالفضول والانكسار….كانت من دئابتي أن أشتري لها شيئا من السوق، لكنها تفهّمت هذه المرة  الوضع السيّئ  الذي يمر بي هذه الأيام، بقدر ما طمأنّت على وصولي، قالت بصدق مشوب بالعطف والحنان :
    أن ترجع إليّ بأمن وسلام ، ذلك  خير وأعظم هدية تقدمها إليّ يا روحي ” !
    طأطأت رأسي مرات عديدة …وعجزت  البوح عن أي شيء ..كانت تحبّني لدرجة لا تريد أن أفارقها ولو لحيضات قليلات، حتى وأنا  الأن في الثلاثين من العمر، لكنها لا تتغير أبدا، هذه طبيعتها وطبعها، صحيح أني لست الوحيد ولا   الأكبر أو الأصغر من عيالها، لكنها لا تزال تفتقد إلى طفولتي التي لم تشعر بها أبدا، وقد استلمت عاجزة وترضّخت قبل خمسة وعشرين عاما تحت إلحاح أستاذي ( يوسف ) للسفر والدراسة في الخارج، وكنت حينذاك في الحادية عشر من العمر ..
    قالت بعد نظرات حنينة:
    • هل وصلت بخير ؟
    • أجل والحمد لله
    • كيف زوجك؟
    • إنها بخير.. وتقرأ عليك السلام
    • والعمل ؟
    • على قدم وساق ..أمي هل تسمعين ما أسمعه الأن؟
    • نعم ..ما هذا فعلا ؟
    • عويلات وصراخات..ما الذي يحدث..أنظر أمي…هذه سيارات الشرطة تجوب الشوارع والناس يجرون من كل مكان.
    • ربما بسبب ما حدث بالأمس
    • مالذي حدث بالامس يا أمي
    • ألم تعلم ما حدث يا بني
    • أدخلني المدينة…. ( كناية عن الرغبة الشديدة في معرفة ماجرى…وهذا عند القمريين )
    • تم تفجير سيارة رئيس البلدية…!!
    • ماذا..من الذي فجرّها ؟
    • لا نفقه كثيرا حول ما حدث يابنيّ، فوجئنا بالحادثة الرهيبة تمام الثانية صباحا أمام منزله  ولم يعرف الجناة حتى الأن.
    • هذا ما كنت أخشاه…هل لذلك علاقة بموضوع الرمال؟
    لا نعرف شيئا حتى الأن…لكن ما تقوله هو أغلب ما يفسره ويراه معظم الناس، فقد أصرّ الرجل على موقفه السابق البليد اصرارا بالغا، فاستحضر أوراقا حملت توقيعه وتوقيع كل من نائب مجلس التشريع ومستشار المنطقة، أنه سيقوم  ببيع رمال الجبل على هواهم رغم أنف أبي ذرّ، بلا جدال ولا نقاش،  وقال : ستنطلق عملية الشراء من الغد، على أن يتم تقسيم القيمة  إلى أربع حصص رئيسية؛ حصة للبلدية، وحصة لنا كأصحاب للجبل، وحصة خاصة للمدينتين التي تلينا…وهذه الأخيرة هي مربط الفأس، وأصل المشكلة ، نحن نرى أنه من حقه كرئيس بلدية أن يرعى كل المعادن الموجودة في المنطقة، فيبيع مالم يكن في ذلك اضرار للبلاد والعباد، وتأخذ كل مدينة صاحبة المعدن المباع حقها كصاحب للشيء أو كراعي له، لكن ما المسوغ في أن تكون هناك ثلاثة حصص  للمدينتين التي تقع من بعدنا، مع أنه لا يوجد شبه حدود، أو مسافات قريبة بينها وأرض الجبل…..هذا ما لم نسمعه من الأوّلين، ولم يحدث إلا في موضوع الرمال عندنا !!!
    نعم هذا صحيح يا أمي… فهذا الرجل لا تزال الاستفسارات  الغريبة تطارده كالقيد بالحديد…، في سنوات قليلة تحوّل رئيس بلدية منطقتنا من رجل مجتهد  يعلق عليه مواطنوه آمالا عريضة في نهضة المنطقة إلى شخص غريب الأطوار، شخص يصعب التكهن بما يمكن أن يقوم به في  الغد !
    السؤال الذي تردد كثيرا على ألسنة الناس الطيبين: كيف ولماذا انهزم رئيس البلدية بهذه السرعة أمام هذه التصرفات الغريبة، فمرة يكاد يسبب صدام بين حاضرة المنطقة وجارتها، ومرة ينجرف في صراعات مع موظفيه في البلدية، وهذه المرة يستيقظ فتن المدن الصغيرة لأمر لن يجدي!
    هناك أكثر من إجابة محتملة:
    ربما هذه طبيعة أي بداية تصاحبها ويلات ونكبات، فهذه أول مرة منذ ثلاث سنوات تقريبا تحاول جزر القمر أن تمضي قدما، وتسير وفقا لنظام البلديات، ولكل رئيس بلدية عندنا في الجزر كوارثه التاريخية، ومن الواضح أن بطلنا ليس لديه خلفية علمية أو شبه معرفية لهذا النظام، مع أنه يتوهم أنه أعلم أهل الأرض !
    ربما  لأنّ الرجل يحاول إلى حد ما الانتقام من مدينة والده لقصور رعاية في مرحلة ما،  أو أن هناك من آذاه وهو صغير، أو لسبب آخر نجهله،  مع أنه- في الحقيقة- أخذ إلى المدينة كملك وزوّج في أكرم بيت فيها وأعزّ  الناس لديها ، ورزق من زوجته الطيبة أطفالا عديدين..!
    وربما جنون العظمة  والرغبة الشديدة في الكسب السريع ..أو ربما كي يضمن  وينال رضا المدينتين التاليتين لمدينتنا خلال انتخابات قادمة على حساب مدينة والده التي  تخلت عنه، وخذلته في الانتخابات الرئاسية الماضية، على حساب الحزب الحاكم!
    مهما يكن السبب فإن النتيجة واحدة ..صار رئيس البلدية سيئا المزاج، تحرّكه فقط الصراعات  والمشاكل، كأنه يحاول إلى حد ما أن يثبت أنه بطل خارق، قضى ثلاث سنوات على هذا المنصب، ولا يكاد يخرج من صراع إلا ويدخل في صراع آخر ..كأنه تم انتخابه فقط لخلق المشاكل والمتاعب.
    …..
     لكن لماذا  تغزو سيارة الشرطة المدينة بهذا الشكل ..أنا ذاهب يا أمي لأتطلع الأمر
    • كلا لا تذهب حتى لا يعتبروك من الجناة فتزجّ في السجن ؟
    • هل هم يطاردون سكان المدينة كلهم …أم يبحثون عن الجناة الفاعلين، مفجري سيارة رئيس البلدية؟
    • مهما يكون المطارد…لكن لا تذهب
    • طيب ..أذهب إلى صلاة المغرب يا أمي فقد حانت
    • هذا أفضل ..وانتبه لنفسك
    في دقائق معدودة وصلت إلى مسجد ( فلفول)، وتوضأت، وصليت  المغرب في عجالة..بل أكاد أسمع وأحسّ بحركات من يجرون خارج المسجد، خوفا من رجال الشرطة، ومن يتسارعون نحوهم، رغبة في معرفة ما يجري.
    ما أن خرجت من  المسجد إلا وفوجئت بشرطي أمام الباب، تبدو عليه تجعدات الغضب على وجهه  وقال في غلظة ماقتة:
    • هيا بنا
    • إلى أين ؟
    • إلى هذه السيارة
    وأشار إلى سيارة الشرطة السوداء وقال مؤكدا:
    • هيا بنا إلى حيث يذهب رجال المدينة كلهم، إلى السجن !
    • ماذا؟
    • سمعتني..هيا !
    استلمت للواقع المخيف، شعرت بنبضات قلبي، وأشياء غريبة تجري داخل الجسم، وسخونة غير مسبوقة في الأنحاء، بقدر ما تذكرت تحذيرات والدتي،  وتيقنت أني سأسبّب لها ألما عظيما، قد ينتج لها مكروها لا قدّر الله  ..ماذا أفعل الأن ؟!
     حدّثتني نفسي أن أطلب  من هذا الشرطي رجاءا خاصا، بأن يمنحني دقائق عدة كي أرى والدتي وأودعها، كلا لن يوافق، لا داعي  لأظهر كالطفل الرضيع!
    ماذا سيحلّ بي في السجن ..وماذا سيقول الناس..هل سأظهر على  الصحف  كمجرم أم كرجل يتم  التحقيق معه.. هل سيتم ذلك أصلا في سرية تامة ..أم سيتم نشر الأمر  هل يمكن فعلا أن أكون بطلا لواحدة من الحوادث التي أقرأها في الجرائد؟ سيكون عنوانا مثيرا ” ضلوع الروائي والكاتب كذا في تفجير سيارة رئيس بلدية كذا وكذا “
     يا الله ..لماذا جئت إلى المدينة ..ولماذا ذهبت إلى الصلاة.. ولماذا هذا الخوف والذعر مع أني متأكد أني لم أرتقب جرما… لكن ماذا  لو غاب العدل  عند رجال   الشرطة فاعتبرت مجرما لا قدّر الله … ؟!
     توجهت إلى سيارة الشرطة بلا مقاومة تذكر وتسلقت بابها الخلفي ودخلت، فتصادمت بالعشرات  والعشرات من شباب المدينة والأطفال،
    بدأت حينذاك أفكر فيما  يمكن أن يحلّ بي،  وأحداث أفلام السجناء ترد في ذهني بشكل رهيب، لم تزل  هذه الأفكار تطاردني …أغلقت عيني في لحظات،  و أخذت نفسا طويلا وقلت في نفسي :
    هذا  جزاء  لكل من يلهث وراء جسام المشكلات كي يكتب ..!!!

    Leave a Reply

    Your email address will not be published. Required fields are marked *

    Back To Top