سوبرانو هو الاسم الفني للمغني الفرنسي – القمري “سعيد مرومبابا” والذي يشتهر أيضاً باسم “سوبرا مبابا” أما الاسم الأكثر تداولاً بين جمهوره فهو “سوبرا”، ويعد من أشهر المغنين وأكثرهم شعبية في فرنسا في الوقت الحالي، كما يعد من أهم فناني “الهيب هوب” في أوروبا بعد أن انتشرت ثقافة البرونكس خارج حدودها في أمريكا، ويوجد في فرنسا عدد كبير من فناني الهيب هوب ويحظون بشعبية كبيرة أيضاً، لكن “سوبرانو” الذي يغني منذ عشرين عاماً ويقدم “الهيب هوب” وما يندرج تحته من أنواع فنية أخرى كالراب والغنغستا، استطاع في السنوات الأخيرة أن يصل إلى طبقات أكثر اتساعاً وتنوعاً من الجماهير، وربما يكون أفضل من يقدم “الهيب هوب” و “الراب” إلى غير هواة هذه الفنون الذين لا يتذوقونها بسهولة ويلاقون صعوبة في فهمها ولا يجدون فيها ما يطربون له، حيث إنه في أحيان كثيرة يكاد ينعدم الغناء والتطريب ويستبدل بإلقاء سريع لكم كبير من الكلمات المتلاحقة، وتكاد تنعدم الموسيقى والألحان وتستبدل بإيقاع رتيب متكرر، كما تكون الكلمات منغلقة بدرجة كبيرة على أصحاب هذه الثقافة الذين يحرصون على تأكيد اختلافهم وتمردهم على الفنون الأخرى، ويخاطبون بعضهم البعض بعيداً عن التفكير في مخاطبة الآخر المختلف عنهم، بينما يذهب “سوبرانو” وتحديداً في آخر ثلاث ألبومات له عكس ذلك تماماً، ويبدو أكثر تصالحاً وتواصلاً مع كل شيء من حوله، وقد مكنه ذلك من خلق شكل فني متميز، حيث الاشتباك مع موسيقى البوب والمنوعات الفرنسية والأنواع الموسيقية الأخرى كالتانغو والفالس والإيقاعات اللاتينية، وهو بذلك لا يتخفف من “الهيب هوب” وإنما يخدم هذا الفن ويجذب إليه المزيد من الجمهور، فمن يستمع إليه سيدرك على الفور أنه مغني راب، لكنه في الوقت نفسه سيجد الإحساس والغناء الجميل والقدرات الصوتية، وسيجد أيضاً الكثير من الموسيقى والألحان، وفي ألبومه الجديد الصادر مؤخراً بعنوان “فينيكس” يجد المستمع بالإضافة إلى ما سبق المزيد من النضج الفني والإتقان، والتجريب والإبداع في تقديم الجديد والثراء الموسيقي، والاهتمام البالغ بالكلمات والموضوعات الحية والرسائل المهمة والإفصاح والتعبير عن كل ما هو مؤلم، وتعلمنا بالخطأ إنه يجب كتمانه والخجل منه وفق قواعد المجتمع المنافق.
من أساطير اليونان حيث يبدأ كل شيء، استلهم “سوبرانو” عنوان ألبومه الجديد والذي يعني طائر “الفينيق” أو “العنقاء” وعن هذه الأسطورة تدور مقدمة الألبوم وخاتمته، ويغني أيضاً عن أسطورة “مورفيوس” إله الأحلام، ما يذكرنا بالشاعر الإغريقي “أوفيد” وكتابه “التحولات” أو “مسخ الكائنات” الذي يحتوي على كافة هذه الأساطير، ما بين طائر الفينيق ومورفيوس هناك تلك الفكرة التي يؤكد عليها “سوبرانو” في ألبومه وهي أنه على الرغم من أننا نحترق ونقتل ونموت في كل يوم، يجب أن ننهض وننبعث مجدداً ونحيا في كل يوم أيضاً، وأن نتعلق ونتشبث بأجنحة مورفيوس، ويشبه “سوبرانو” نفسه بطائر الفينيق في بداية الألبوم بينما نستمع في الخلفية إلى صوت النيران التي تلتهم كل شيء ثم نسمع رفيف أجنحة الطائر المنبعث من قلب الرماد، وينتهي الألبوم بقوله إننا جميعاً ذلك الطائر الذي يختبر الموت والحياة في كل يوم.
يضم الألبوم 16 أغنية قام “سوبرانو” بكتابة كلماتها وتأليف موسيقاها ما عدا الأغنيات الثنائية التي تشارك فيها مع مغنين آخرين في الغناء والكتابة والتلحين، كأغنية “زووم” مع مغني الراب الفرنسي – الإيفواري “نيسكا” وأغنية “بلان بي” مع مغني الراب الإيطالي – التونسي “غالي” وهي الأغنية الوحيدة في الألبوم التي نستمع فيها إلى لغات أخرى غير اللغة الفرنسية، حيث تحتوي على مقاطع باللغة الإيطالية واللغة العربية إلى جانب اللغة الفرنسية، وهي أغنية جميلة ذات موسيقى هادئة وإيقاع لطيف نوعاً ما، وتدور حول تشابه حياة المهاجرين سواء في فرنسا أو إيطاليا، وأن أوجاع الغربة ومعاناة العائلات التي تعاني من البعد والفراق واحدة أيضاً سواء في تونس أو جزر القمر، وفي هذا الألبوم يُظهر “سوبرانو” مهارة وتفوقاً فنياً من خلال اختيار الموضوعات وصياغة العبارات والكلمات القوية التي تلمس مشاعر الجميع لأنها عن تجارب إنسانية مشتركة، وكذلك يتناول بعض الموضوعات المؤلمة والمتكررة الحدوث في هذه الحياة بشكل ساخر وبكلمات طريفة كأغنية “نينجا” عن فخاخ ومقالب الحب التي يقع فيها النساء والرجال على السواء، حيث يتم استغلال المرأة باسم الحب من أجل الحصول على الجنس، ويتم استغلال الرجل باسم الحب أيضاً من أجل الحصول على المال.
أما على صعيد الموسيقى فقد أبدع بدرجة كبيرة واهتم كثيراً بالجمل اللحنية المتميزة وبخواتيم الأغنيات على وجه الخصوص، حيث تستمر الموسيقى لفترة بعد انتهاء الكلمات وكأنها تكمل التعبير عن مشاعر لم تستطع الكلمات التعبير عنها، وبالإضافة إلى الموسيقى الرقيقة الهادئة يوجد الكثير من الموسيقى الراقصة، ويمكن القول إن “سوبرانو” في هذا الألبوم قد صنع موسيقى تستطيع أن تحرك الجماد وكأنها أتت مصحوبة بالكوريغراف الخاص بها تدل المستمع على الخطوات اللازمة وتقوده تلقائياً حتى وإن كان لا يتقن الرقص، كما يوجد التنوع الموسيقي داخل الأغنية الواحدة كأغنية “كازانوفا” التي تنقسم إلى ثلاثة مقاطع وتنتقل من موسيقى الفالس إلى البوب إلى الهيب هوب في تناغم جميل، ومن هذه الأغنيات الراقصة الباعثة على الفرح أغنية “للحياة للحب” والتي قام بتصويرها في جزر القمر حيث نرى علم بلاده الأصلية في سمائها الصافية، وتُظهر الأغنية جمال البحر والطبيعة ووجوه الناس الباسمة وأرواحهم النقية، ويرقص “سوبرانو” معهم بحب وفرح اعتزازاً بجذوره.
وبعيداً عن الفرح يتناول أحوال المنطقة العربية والإفريقية البائسة في أغنية “بوليتيكا بوليتيكا” حيث السماوات الممطرة بالموت، والظلم الذي تتعرض له هذه المنطقة وإفقارها عمداً وحرمانها من التعليم الجيد والغذاء الجيد وكافة فرص الحياة، ويسخر من أباطرة الحروب والعالم المنافق والإنسانية الزائفة وكل من يدعي أنه يقيم الحروب من أجل إقرار السلام بالقوة وتحقيق الأهداف النبيلة، كما يذكر “ليبيا” وهي الدولة الوحيدة التي يذكرها بالاسم وسط هذا الجحيم بسبب ما تشهده من عودة العبودية في شكلها القديم الصريح، ويقول: أن المرء هناك قد يجد نفسه يباع كعبد بسبب لون بشرته.
لا يشعر المستمع أن “سوبرانو” يغني فحسب، وإنما يشعر بأن الغناء هو لغته وصوته ووسيلته الوحيدة للتعبير، هو كل ما يستطيع أن يفعله في هذه الحياة وفي مواجهة هذا العالم، هو وجوده وكينونته وهويته بكل تعقيداتها، وتحمل كلماته وموسيقاه أفكار ومشاعر ذلك الإنسان الذي ولد في فرنسا لعائلة مهاجرة من جزر القمر، تقيم في ضواحي مرسيليا وتكافح وتشقى من أجل العيش في بلد غريب، وينشأ منذ طفولته مع مشكلات الهوية ويخوض في مراهقته وشبابه الصراع تلو الآخر، بينما يمتلك الثالوث النموذجي للاضطهاد (مسلم – إفريقي – عربي) والذي كان كافياً لكي يشعر بأنه غريب ومنبوذ ولن يكون أبداً جزء من هذا المجتمع الذي هو في حقيقة الأمر جزء منه، فهو فرنسي وفرنسا هي وطنه على الرغم من الدين أو العرق أو لون البشرة، وقد أصيب بالاكتئاب منذ سنوات مراهقته وحاول الانتحار كما يذكر في مقدمة ألبومه الجديد، كما خاض صراع (الحلال / الحرام) كما يقول باللغة العربية في أغنية قديمة له بعنوان “لا كولمب”.
وتعد أغنية “البهلوان” من أجمل أغنيات الألبوم الجديد، وعلى الرغم من تشابهها مع أغنية سابقة له بعنوان “المهرج” في فكرة أن الحياة سيرك يضطر المرء أحياناً لارتداء قناع باسم يخفي وراءه الحزن العميق المستقر في النفس، ويقوم بإضحاك الآخرين الذين لا يعرفون ماذا خلف هذا القناع وماذا وراء هذه الضحكات، إلا أن المستمع لا يشعر بأن أغنية “البهلوان” مجرد تكرار لم نكن في حاجة إليه، فالفكرة شيقة بالفعل وتحتمل أكثر من أغنية، وقد تكون أغنية “البهلوان” أقوى فنياً وبها عمق أكبر في المعاني والتأثير الموسيقي الذي يوحي بخطورة عمل البهلوان الذي يمشي على الحبل المعلق في الهواء ويلعب الأكروبات في الهواء أيضاً، وعليه أن يحفظ اتزانه طوال الوقت لأن اختلاله لثانية واحدة يعني سقوطه، يتحدث “سوبرانو” في هذه الأغنية عن البهلوان / الإنسان الذي يمشي على الحبل في هذه الحياة حيث يواجه رياح العواصف والأزمات التي تهدد اتزانه، وفي كل لحظة يواجه خطر السقوط سواء في مستنقعات الأخطاء أو في هوة الفراغ والنسيان، إنه الصراع اليومي مع الحياة وخيبات الأمل والغضب والرغبة في لعن كل شيء، ومواجهة الشكوك والاختيارات الخاطئة وأشباح الماضي التي تطاردنا، وعلينا أن نواجه كل ذلك وأن ننجو بأنفسنا بينما نسير على حبل معلق في الهواء.