سياحةٌ في روعة العتاب لدى مانع سعيد العُتيبة

لأن التسامُح نقطة ضعفي= فما زلتَ تحظى بِودي ولطفي
وما زلتَ تطعنُني كل يوم= فلا يتصدّى لطعنك سيفي
 أداوي جراحي بصبري الجميل =فلا القلب يسلو ولا الصبر يشفي
 وأسأل ما سِر هذا الثبات=على عهد حبي فيَشرح نزفي
 لو لم أكن يا شقائي لطيف=رحيماً غفوراً لأشقاك عنفي
فلا تتخيل بأنك أقوى=وأني صبور على رغم أنفي
 أنا هو بأس العواصف فافهم=لماذا أصونك من هوى عنفي
 لأنك لا تستطيع الصمود=إذا غاب عنك حناني وعطفي
 أحبك ما زلت رغم الخطايا=وتشهد بالحب دمعة حرفي
 بكيت طويلاً بصمت انتظاري= فأنت إنتصاري الأخير وحتفي
 أحبك واليأس لا يتناهى=أمام خطاي ونظرة طرفي
وأرض فؤادي إلى الغيث ظمأى= وما أنت إلا سحابة صيفِ
بخيل عليّ كريم على من=يماريك في قول زور وزيفِ
 حبيباً تظل برغم دمائي=يلوّن كفّيك يا جرح كفي
 ومهما يكن لن أصيح إحتجاجاً=ولا لن أقول لسيفك: يكفي
 لأن الوفاء له عين أعمى=وأذن أصمٍ إذا صحّ وصفي
فإن شئت قتلي فوجهاً لوجهٍ=وإياك من سّل سيفك خلفي
 فحين أموت سيكشف موتي=جميع الذي كنت توري وتخفي
 وحين تذيع دمائي الحكايا=فكيف ستنكر صدقي وتنفي
عشقتك موتاً وبعثاً فهلّا=تفهّمت مالي وحالي وظرفي .
بقلم/ دكتور مانع سعيد العتيبة
_____________________
دكتور مانع سعيد العتيبة… سياسي وشاعر إماراتي مبدع حد الترف ، في سبعينات القرن الماضي شغل منصب وزير البترول والصناعة بالإمارات ، وفي التسعينات أصبح مستشارا خاصا لرئيس الدولة ، له حوالي ثلاثة وثلاثين ديوان من مختلف أغراض الشعر عامي وفصيح ….
تميزت أشعاره بالمتانة والحكمة والرصانة وخفة الوزن والإحكام وعذوبة الجرس .. رغماً عنك حين تقرأ حروفه ستسبح دون أن تحس في طيات أثيره وعبيره وتتوه إلى أن ينتهي بك هو ودون أن تنتهي أنت.
في هذه القصيدة جمع بين الحب والفخر والشكوى والتسامح والخضوع والتحذير والتنبيه والصبر والشموخ والاعتزاز وكل ذلك في إطار عتاب لطيف لمحب دنف وله قصائد كثيرة في هذا الباب … إلى أين يأخذنا بخياله دون روية والهدف بعيد !!!! فهو المحب المتسامح ورغم الطعن يملك المقدرة على العفو، ويملك العبارة التي تجعله يصول ويجول في فكر محبوبه وحسه كيفما شاء .. يحذره بأن يتقي شر العاشق الحليم إذا غاب حنانه وعطفه ويذكره بنتيجة ذلك بشكل أكثر من سلس سواءً كان المقصود حبيباً أو صديقاً أو قريباً أو حتى وطناً فكل الاحتمالات واردة ..
والقصيدة بشكل عام كقُرص الشمس واضحة حد العمى لمن يرمي بصره فيها، لا تحتاج لتوضيح وتمحيص كبير .. استخدم كل أدواته بأسلوب لين سهل لطيف مرن يحمل بصمته المتميزة … ولا تخفى على القاريء سمات هذا الأسلوب الذي توفرت فيه متطلبات هذا الفن من الشعر ..وأظنه العتاب .. إن لم تخُنّي قراءتي … فالقصيدة مكتظة بشتى الألوان كما سبق وذكرت .. عموماً سأتطرق لفن العتاب في الشعر بمحاولة تدارسية متواضعة .
العتاب سبيل لإعادة صفو النفس ورقة الروح وروح المودة بعد كدر وتقصير ، بأسلوب لين هاديء فإن أكثر الشاعر وأطال دون استلطاف ودخل فيه المن والإجحاف والاحتجاج والخشونة كان ذلك أدعى للجفاء والهجران والعناد .. وأذكر في ذلك عتاب المتنبي لسيف الدولة الحمداني : “ياأعدل الناس إلا في معاملتي فيك الخصام وأنت الخصم والحكم”  وقد كان عتاب المتنبي غالباً به لمسات من القوة والقسوة الممزوجين بكبرياء وتعالي وإن خالطهما بعض الهدوء .
ومن العتاب الذي يجمع بين اللين والرقة والخشونة نجد الشاعر السري الرفاء  في قوله : أروم منك ثماراً لست أجنيها وأرتجي الحال قد حلّت أواخيها*
أستودع الله خلاً منك أوسعه وداً ويوسعني غشاً وتمويها*
كأن سري في أحشائه لهبٌ فما تطيق له طيّاً حواشيها*
قد كان صدرك للأسرار جندلة ضنينة بالذي تخفي نواحيها*
فصار من بعد ما استودعتك جوهرة رقيقة تستشف العين مافيها *
وهنا عتاب لمن استأمنه على أسراره ولكنه خذله وأفشاها، فبعدما كان صدره في كتمان السر جندلة ..أي حجارة … صار جوهرة كالزجاج تشف ما بداخلها.. وقد أبدع في الوصف وأجزل.
وحين ذكرت عتاب المتنبي والسري الرفاء فمقصدي هو المبنى الظاهر وليس المعنى العميق وذلك للربط بين ذا وقصيدة  د.مانع … فالعتاب يحمل عدة أشكال على حد علمي .. منه التوبيخ .. ومنه التنبيه دون الطلب ..ومنه الاقتضاء وهو طلب الحاجة.. ومنه الاستنجاز وهو طلب إنجاز الشيء .. واختلف فيه كثير من النقاد ..وكل ذلك في الشعر يجمّله التلطيف ويجوده .. كقول أمية بن أبي الصّلت لعبدالله بن جدعان :
أأذكر حاجتي أم قد كفاني حياؤك ؟ ان شيمتك الحياء*
وعلمك بالحقوق وأنت فرع لك الحسب المهذب والسناء*
خليل لايغيره صباحٌ عن الخلق الجميل ولا مساء *
وهنا اقتضاء فيه العتاب لايكاد يرى بالعين المجردة بل يكاد ينعدم ..إذ يفتت الصخر ليناً ….
وهذا ماختم به  د.مانع قصيدته بكل هدوء ولطف دون أن يثير أي ضجة ونقع أو صهيل رغم ما أسلفه من حزم وتهديد وقوة واعتزاز وكبرياء ولكن يعلم ونعلم أن للعشق سلطانه و سطوته وصوته وقبضته التي لا انفلات منها ..
أجاد في تعابيره وتفاسيره وتقديره الصحيح لموقع كل كلمة مع الحفاظ على جمال صوتي ينساب في الحس كصوت البيانو ، وقافية تحاكي المبتغى وترسم القوس فكان الرمي كما يجب .
والشرح بشكل عام _
لأن طبعي التسامح وهو نقطة ضعفي التي أعلمها وتعلمها فإنك تحظى بودي ولطفي لذا تأمن جانبي و تتمادى في الطعن كل يوم ؛ و يقصد بالسيف هنا.. العقاب..
أداوي جراحي منك بجميل صبري، لكنه لايشفي ولا القلب يصد.. ويدهشني هذا الثبات رغم كل هذا الوجع وحين أسأل عن سره يجاوبني نزف جراحي.
ولو لم أكن ، ياشقائي ، لطيف معك” وهنا عتاب وصفي لطيف يلحقه تحذير عنيف بـ : لأشقاك عنفي .
فلا يغرنك تجاوزي وصبري وتظن أنك أقوى… أنا قوة العواصف وأصونك من هوى عنفي و غضبي لأنك لن تصمد دون حناني وعطفي..
ورغم خطاياك فمازلت على حبي ودمعة حرفي شاهدة علي.
ثم جاء شاعرنا بتعبير بليغ في _ أنت انتصاري الأخير وحتفي ” وهنا تناغم الضدان واتفقا بلطف، وهذا هو الإبداع الحقيقي في وصف الحال.
ويظل حبه قوياً ثابتاً رغم اليأس مابين الخطى الماضية و ورؤية تعرجات الطريق،
ورغم الظمأ للغيث بينما الحبيب سحابة صيف ضنينة عجلى بخيلة على من يحبها كريمة على من يماريها وينافقها مع علمها بذلك..ويالها من سحابة.
وأيضاً أبدع للغاية في قوله : حبيباً تظل برغم دمائي يلون كفيك ياجرح كفي.. أي أنك ستظل حبيباً رغم أنك قتلتني أو جرحتني ودمائي يلون كفيك يا_جرح كفي_ ..وهنا لو اتبعنا خيالنا قلنا بأنه ربما يشبه صد حبيبه بالسيف و بأنه يحاول احتواء هذا السيف بكفه بكل إصرار لذا جُرِح كفه. ومهما فعلت أيها القاسي لن أعترض ولن أقول لسيفك يكفي، لأني وفيٌّ لك حد العمى والصمم.
ثم في الأخير يعود الشاعر رغم كل ذلك لثباته وكبرياءه وكرامته بقوة في قوله الصارم وتحذيره الشجاع : إياك وسل سيفك خلفي، إياك والغدر وأقتلني وجهاً لوجه..لأكتشف ماتوري وتخفي.. وسيفتضح أمرك.. وحين يحكي دمي عني حينها لن تستطيع نكران صدقي بعد أن أثبته لك بموتي  ..
وبعد كل هذه القسوة والعناد والصد والظلم والقتل يختم الدكتور مانع رحلته بأجمل مايكون من وفاء خطه شاعر : عشقتك موتاً وبعثاً _أي أنك لي الموت و الحياة معاً..تمنحني الحب وتمنعه عني… فهلّا تفهمت مالي وحالي وظرفي!! _ قمة العتاب المغلف برجاء مُحب دنِف سيظل يصون الود والعهد بكل السبل .

بقلم /  نهى إبراهيم سالم

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *