إن الكَلام في تقدم العربية في بلادنا كِلام (١) للقلب ، و إن الدعوة إلى إحلالها مكانًا ساميًا جُوار (٢) لا ينقطع منذ مئات السنين ، و لعله يتبادر إلى ذهنك الآن سؤال : إذا كان هذا النداء قديمًا مذ سقوط المملكة العربية التي امتدت يدُها على الجزر الأربع على أيدي المحتلين الغربيين ، فما الذي أعاقنا عن استرجاع عافيتنا إلي اليوم ؟ أمِنْ قلة الحيلة ؟ أم عدم تَوَفُّر الباحثين القمريين في الساحة ، الذين يَقدِمون على مباشرة تعليم الناس العربيةَ و تشجيع الشباب لها ؟
الحق أني مستغرب من هذا – أيضا – و أتساءل مثلما تتساءل و لا يستنكف فكري عن تقلب هذا السؤال في خاطري ، و لكنني أزعم أنه لا ينقصنا الباحثون ؛ لأنك إذا أطلت عينيك و فتحت مقلتيك وجدت أن أبناء جزر القمر الذين تخرجوا في المؤسسات العلمية العالمية في الوطن العربي هم كثر ، و في مختلف الأقسام العلمية ، بدءًا من قسم العربية مرورًا بأقسام الشريعة و الدين منتهيًا إلى الأقسام الفنية و الثقافية ، فلم يكن نشر العربية عجزًا علينا أبدا ، و إنما تكمن المشكلة في أن الخريجين في الدول العربية فورَ وصولهم إلي أرض الوطن لا ينشغلون بنشر علمهم الذي حملوه ، إلا قليلا منهم .
أكثر المستعربين في بلدنا منغمسون في المشهد السياسي ، يتنافسون في المناصب و المراكز الرفيعة ، و تناسوا هدفهم الأسمى ، و بعضهم ينخرطون في الأعمال التجارية ، أو في الهجرة إلى خارج البلد بحثًا عن ملاذ آمن يوفر له عيشًا رغدًا ، و تجنُّبًا عن ضنك العيش الموجود في البلاد ، فتجد ثغرات عديدة في مجال التعليم غير محروسة ، و نقصًا كبيرًا في أداء المهام ، فلا يجد اللسان العربي من يقومون حق القيام على توظيفها في المجتمع ، ناهيك عن عدم المبالاة بها من قِبَل السلطة ، فهي سلطة فرنسية و حكومتها ، و لن ترضى فرنسا أن تتقدم العربية على الفرنسية في البلاد أبدا لتمحو آثارهم و تطمس معالمهم.
أن تصل العربية إلى مركزها الحقيقي يحتاج إلى مجهود حكومي كبير و دعم مكثف من الخريجين القمريين ، و إذ كان هذا شبهَ مستحيل من قِبَل حكومتنا لم يكن بد أن يسقط القسم الآخر ، و هذا قد سبَّبَ عدة عوامل أدَّت إلى انحصار العربية دون المستوى المرجو لها ، و تتمثل في نقطتين أساسيتين هما :
الأولى : عدم انتشار المدارس التي تهتم بالعربية في ربوع البلاد ، فإن أكثرها محصورة في العاصمة لا تجاوز محيطها ، و لو كنا صادقين في نشر العربية وجب على القائمين في هذا المجال نشر المعاهد في كل ركن و زاوية من زوايا البلاد ؛ لأن انحصارها في العاصمة إعاقة لهذا المشروع العظيم ، و شِكل(٣) لمتجارته .
الثانية : أن المعاهد التي على أرض الواقع كلها معاهد خارجية و ليست منتمية للباحثين القمريين و إن كانوا هم الذين يدرسون فيها ، فليس سواءٌ أبدا لو كان الباحثون القمريون هم الذين قاموا بافتتاح مدارسهم ؛ لأنني علي يقين أن رؤيتهم لمجتمعهم و الهمةَ لديهم تختلف جدا عن رؤية غير القمريين ، فإن الهمم تتعاظم و تتقاصر حسب الرؤية الشمولية و المصالح المكتسبة.
تستطيع أن تتصور بنفسك ما أدى إلي انخفاض دور الباحثين القمريين في مساهمة نشر العربية في جزرنا الخضراء ؛ ذلك أنهم غير مؤتلفين ، لا يشكلون وحدة اجتماعية موحدة ، و لا يخططون معًا لمصالح بلادهم و إنما لمصالح فردية ، و صدق مَن قال : الاتحاد قوة ، و طالما لا يوجد تَوحُّدٌ و لا رؤية مشترَكة ذهبَت ريحُنا ، و لن نتقدم في أي مشروع أبدا.
و من العوامل التي تُعثِّر على تقدم العربية تأخير دفع رواتب المدرسين ؛ و هذا عجز ليس بعده عجز ، و هذا إحباط الهمم و تثبيط النفوس ، و هذا إخفاق كبير في نفوس الطلاب قبل المدرسين أنفسهم ، رغم أنها معاهد مستقلة خارجية لكن الأمر ينجر إلي ساحة السياسة و المكاسب و هذا الداء العَياء(٤ ) .
_______________________
١ – هو الجرح ، من كلم يكلم كِلاما إذا جُرح
٢ – الصوت الشديد من الوجع و الفجع
٣ – شبه ، و شِكل الشيء – بكسر الشين – هو شبهه
٤ – بفتح العين ، و الدواء العياء هو المرض الذي ليس له علاج.
عفيف إسماعيل يوسف
طالب دراسات عليا في اللغة العربية وعلومها- جامعة الأزهر