إن آفة العلم في زماننا أن يُوَجَّه الطالبُ إلى تلقاء علمٍ مُعيَّن دون أن يُعرَّج نظرُه إلى متعلقات هذا العلم من أفنان المجالات ، فـينشأ الطالب نشأة سلبية ، فـيظن أنَّ تخصصه الذي هو متخصص فيه قد استغنى عن بقية الفروع و لا شيء منه يحوجه إلى معرفتها ، و أقبح من هذا أن ترى العلوم المتعلقة بدراسة اللسان قد فُرِّعت و قُسِّمت أقسامًا متباينة ، مع أنها كلها علوم متداخلة ، و لا غنى لطالب العربية أن يستغني عنها ، فهي علوم مَصَبُّها واحد ، و إن اختلف بعضُ تَوجُّهاتها ، فـأنت كطالب للعربية و الفصاحة لا يجدر بك أن تسلك هذا المهيع ، و عليك أن تلمَّ جميع ما يتعلق بهذا اللسان ، فـأنت في مجالك أديب أريب ، و لغوي فصيح ، و عربي مبين ، و مفسر لبيب ، فـكم رأينا من أنظمة التعليم الحديثة من عجائب يقشعر لها الأبدان قبل الأرواح ، و تخيَّل معي أن ترى في داخل الكلية التي لها اهتمام بالتراث العربي اللساني فتجد المجال اللغوي بعيدًا عن المجال النحوي و الصرفي ، و تجد المجال البلاغي في ناحية ، و الأدب في أخرى ، و كلها مساعِدة و مكوِّنة أساسية للملكة اللغوية لدى طالب ، فـإياك أن تَخال أن المجال النحوي وحده كافٍ لمنحك الملكة اللغوية ، فالنحو يُبيِّن لك ناحيةً من النواحي اللغوية ، و ليس كل النواحي ،
يستلزم عليك كطالبٍ لهذا البيان أن تُوليَ اهتماما لجميع فروع الدرس العربي كما أنك تهتم بالنحو ، فقد لُوحظ في الحقبة الأخيرة أن أكثر الطلاب مهتمون بالنحو أكثر من غيره من العلوم اللسانية ، لا سيما الأجانب الذين يفدون لدراسة العربية ، و من أعظم المؤلفات التي ينبغي أن ترتكز عليها عنايةُ الطالب تيك التي تدرس الفروق المعنوية من حيث التذكير و التأنيث و الجمع و الإفراد و غيرها ؛ لأنه يقبح على الأديب بصفة عامة و على الطالب الحامل العربية بصفة خاصة أن يؤنث ما يجب تذكيره ، أو يذكر ما يتوجب عليه تأنيثه ، و قد عُلم أن هذا اللسان حافل بهذا النوع أوسع من غيره ، فمن ذلك أن ترى ” الرِّجل ” في موضع لها معنى و في آخر معنى غيره ، فـيُذكر في أحدهما و يؤنث في الآخر ، كـ رِجل الإنسان و الدابة مؤنثة ، و منه قول الشاعر :
فـكنتُ كذي رِجلين : رجلٍ صحيحة :: و رِجل رمى فيها الزمانُ فـشلَّت
و رِجل المقصود بها المشابهة ، و رجل يُقصد بها جريان الأمر على يده كقولك : كان ذلك على رِجل فلان ، أي : على يده ، و منه قول سعيد بن المسيب : لا أعلم نبيًّا هلك على رجله من الجبابرة ما هلك على رجل موسى ، قيل معناه : هلك على عهد موسى ، و ” الرجل ” أيضا القطيع العظيم من الجراد ، و في هذا يُذكَّر ، تقول : رأيت رِجلًا عظيما من الجراد ، أي : قطيعًا منه ، و بهذا المعنى فهو السِّرب ، و من هذه الفروق المعنوية كلمة ” الشمس ” فالتي تطلع كل يوم مؤنثة ، و من الشمس أيضا ” الحَلْي ” و هو مذكَّر ، و كذلك ” القدم ” يقال للرجل الشجاع : رَجل قدَمٌ ، أي : شجاع ، و هذا مذكر ، و من القدم : التقدم ، مذكر أيضا ، كالذي جاء في حديث عليٍّ – رضي الله عنه – ( يقول في صفة النبي – صلى الله عليه و سلم – و في مدحه : كما حُمل فاضطلع بأمرك لطاعتك مستوفزا في مرضاتك لغير نَكَل في قدَم ، و لا هي في عزم ) قيل معنى القدم هنا : التقدم ، ثم قدم الإنسان مؤنثة ، و من القدم أيضا : السابقة و العمل الصالح ، و هي مؤنثة في هذا أيضا ، قال الله – تعالى – ( أن لهم قدم صدق عند ربهم / يونس ) و منها بيت حسان – رضي الله عنه – :
لنا القدم الأولى إليك و خلفُنا :: لأوَّلنا في ملة الله تابعُ
و هذي الفروق دقيقة للغاية ، ينبغي للطالب أن يمنح لها العناية الكاملة ؛ لانها التي تُكسيك الحلاوة ، و تُلبسك المهابة ، و ترفع شأنك في المجامع ، و تُخضع لك الجوارح ، و تَخشع لك الأصوات ، و تَأسر إليك الآذان ، فـتَنبَّه بها و كن على دراية بها ، وفَّقني الله و إياك لمرضاته ، إنه ولي التوفيق !
عفيف إسماعيل يوسف
طالب دراسات عليا في اللغة العربية وعلومها- جامعة الأزهر