أنبأنا الباري – جل ثناؤه – أنه أنزل كتابه بلسان عربي مبين ، فاختار من لغات العرب أفصحها ، و تخيَّر من أساليبهم الأدق و الأعلى مكانة ، و كانت هذه الأساليب معروفة مفهومة عند مَن خُوطِبوا بهذا الكلام ، و أدركوا كُنهَ فصاحتها و بيانها العليِّ ، ثم استُبهِمَ على الناس بعد ذلك ؛ لدخول الأعاجم في الإسلام و الاختلاط الناشيء بين العرب و غيرهم ؛ و لأن كثيرًا من قبائل العرب تركت ديارها و نزحَت إلى البلاد الفتوحة من قِبَل المجاهدين ، و تَعلَّموا ألسنَ سكان هذه الديار ، فـنشأت أجيال عربية باعدين عن لغتهم و مواطن الفصاحة لديهم ، و انغلقت الأساليب العربية على كثير منهم ، إلا مَن عكف على مدارسة كلام الآباء و الأجداد ، و من ولَّى وجهه شطر مرابض فصاحتهم ، فكان من أجلِّ العلوم التي خدمت هذا اللسان العظيم و حافظت على هُوِيَّة العرب و معاني كلامِهم هي العلوم اللسانية ، و أولها علم النحو ، أو علم الإعراب ، فهذه العلوم هي التي حافظت على فصاحة القرآن و بلاغته و إعجازه ؛ لأن موضوعها مقاصد كلام العرب ؛ و لهذا ، إن أكثر الناس تذوقًا بكلام ربهم و بيانه العليِّ مَن سعى وراء هذا المقصود ، و لبيان ذلك أقول لك :
إن النحاة لمَّا تأمَّلوا في الحروف التي يستعملها العربي وجدوها ذواتَ حَمَّالين ظاهرًا يعرفه القاصي و الداني على حد سواء ، و باطنًا خفيًّا لا يدركه إلا ذو حظ عظيم في فهم الكلام العربي ، فـمثلًا قالوا : إن ” ثم ” حرف من حروف العطف ، و معناها أنها تفيد الترتيب مع التراخي – و هو البعد الزمني و المسافة – فإذا قلت : مررت بعمرو ضاحكًا ثم مررت به باكيًا ، عُلم من هذا أن بين المرورين فسحة من الوقت ، و على هذا المعنى القريب الذي يعلمه كل أحد له دراية بكلام العرب لوطبقناه على قول الله – عز و جل – ( هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا ثم استوى إلى السماء…. / البقرة) يُفهم منه أن الأرض خلقت أوَّلا ، ثم تلاها خلقُ السماوات ، و قد جاء في غير هذا الموضع ما يخالف هذا و هو قوله – تعالى – ( ءأنتم أشد خلقا أم السماء بناها…… و الأرض بعد ذلك دحاها / النازعات ) ففي هذا الموضع أخبر بأن خلق الأقوات ( السماوات) قد سبق خلق الأرض ، فما الوجه بينهما ؟
أجاب العلماء بأن المولى – تقدست أسماؤه – في آية البقرة لم يقصد ترتيب الوقوع ، أي : أنه لم يَسُق الكلام للحديث عن خلق السماوات والأرض أيَّتُهما خُلقَت أوَّلا ، بل كان المقصود منه : ترتيبَ الأخبار ، كما إذا حدَّثك أحد بحديث طويل طرأ عليه ، فـيقول لك : كان من أمري كيت و كيت ثم كذا و كذا ، فإنه في الغالب لا يقصد ترتيب وقوع الأحداث ، و إنما يكون قصده أن يرتب لك الأحداث و يُنَسِّقَها لك ، فـيا ترى ، من أنبأ العلماء هذا الفهم العميق ، و هذا المعنى الدقيق ، غير أنهم لما أفرغوا جهدهم للنظر فيما وراء الكلام العربي فـفتح الله عليهم هذا الفهم الراسخ ، و هذا الكنز الدفين ، فإن وراء الكلام العربي جنبات يدركها من أدرك ، و يجهلها من جهل .
اللهم ، إنا نسألك أن تعلمنا هذا اللسان العظيم ؛ لأننا جاهلون به ، نسألك أن تُبصرنا إلى فنونه الدقيقة ، و خباياه الرفيعة ، إنك على ذلك قدير !
عفيف إسماعيل يوسف
طالب دراسات عليا في اللغة العربية وعلومها- جامعة الأزهر