كثيراً ما نجد صعوبة في تقديم تفسيرات أكثر دقة للعقل السياسي النخبوي القمري، وكذلك تحديد محددات عمله، لأن كل من يتابع الشأن السياسي القمري سوف يحتار بشكل كبير جداً في فهم العقلية السياسية القمرية فضلا عن فهم دقيق للسلوك السياسي النخبوي القمري. وسوف يجد أمامه بكل تأكيد تناقضات فائقة بين التصريحات الرنانة و السلوك السياسي التطبيقي، و بين ما يروج له من قبل تلك النخبة التي تقود الدولة والمجتمع منذ عقود. وما يثير الأمور مزيدا من التعقيد هو عزوف المثقفين القمريين والمراقبين للشأن القمري عن التعاطي لمثل هذه القضايا المهمة؛ لذلك نجد افتقارا وشحا في المعلومات حول هذه القضيا.
وأحاول من خلال هذه السطور أن أقدم تفسيرا أو مقاربة حول العقل السياسي النخبوي القمري، حيث تشكل جزر القمر أمة واحدة بما تجمعها عدة قواسم مشتركة بين المجتمع القمري، كاللغة والدين والتاريخ، وكل هذه العوامل موجودة إلى حد كبير في هذا المجتمع.
وفي قرائتي للعقل النخبوي السياسي القمري أجد أنه تقليدي ويعيش بعيدا عن التطور في نمط تفكيره، وفي قراءة المشهد السياسي الدولي والعربي بشكل عام وبطريقة عقلانية، يعود السبب الرئيسي باعتقادي إلى الثقافة السياسية السائدة الخاصة بالمجتمع القمري، هذه الثقافة التي امتزجت بثقافات مختلفة المصادر، فرانكوفونية وأخرى عربية وأفريقية، مما أدى إلى تشكيل عائق أمام تطور العقلية القمرية السياسية، أو ربما نقول أن تلك النخبة لم تحسن في التوظيف الأمثل والتوفيق بين عوامل هذه الثقافات لتشكيل رؤية سياسية عميقة لها مبادئها و أهدافها وتوجهاتها.
أرى أن النخبة السياسية القمرية حاولت التوفيق بين هذه الثقافات رغم أن لكل منها مصدر مختلف مستقل عن الآخر، بحيث تكوّن مركبا جديداً من الفكر السياسي القمري، ما يمكن أن أصفه بأنه فكر سياسي لا مبدئي ولا تهدف إلى تحقيق مصلحة وطنية عليا . ولأن مبدئ التوفيقية ليس عيبا في حد ذاته إن كان بين عناصر تقبل طبيعية التجانس والملاءمة والتوافق بينها.
ولكن ما يحدث عند العقلية النخبوية السياسية القمرية هو الجمع بين أخلاط تستعصي بطبيعتها التوافق والتجانس، على نحو أقرب إلى التلفيقية أكثر منها إلى التوفيقية. والأمر الآخر فيما يتعلق بالتوجهات في الفكر السياسي القمري، و هنا يمكن أن نميز بين نمطين من التوجهات.
النمط الأول: تتعلق برغبة المثقفين القمريين ذوي الثقافة العربية والدينية في تقديم رؤية جديدة وقراءة مغايرة عما كان سابقا حول العلاقات القمرية العربية والغربية، والتي هدفت بشكل رئيسي إلى تعريب الدولة لتتلائم مع ثقافتها العربية، ويمكن أن يكون الجسر الأساسي في التقارب القمري العربي مما ينتج من خلاله نوعاً من التنمية الاقتصادية و البشرية. والباعث لهذا التوجه هو البحث عن شركاء جدد يمكن أن يقدموا للبلد ما لم يقدمه المستعمر الفرنسي وتكون العلاقات تتسم بالندية والتوازن، و قد تعاونت هذه النخبة السياسية مع منظمة الجامعة العربية للاستفادة من بعض مقررات هذه المنظمة ذات الصِّلة و ببعض الدول العربية.
النمط الثاني : يمثله مثقفوا الفرانكوفونية، هذه النخبة من القيادات السياسية تسعى للتوازن بين التوجه شرقاً (الشرق الأوسط) والتوجه غرباً نحو (أوروبا، أمريكا روسيا)، مع التقرب أكثر إلى الشرق بسبب العنصر المالي الفائض، واستيائهم من الهيمنة الغربية الفرنسية التي لم تحقق مصلحة شخصية كبرى بشكل مباشر؛ لكن هذه النخبة لم تستطع التحرر في قراراتها السيادية بشكل كلي من التبعية الغربية الفرنسية، لأن الهيمنة الفرنسية تحديدا قدمت خدمات لهذه النخبة خلال عقود من الزمن التي حكمت الدولة.
إن هذا الخلط بين المقاربتين نتيجة ما نشاهده من سياسات لتحقيق هذا التوازن في العملية السياسية، وكلا المعسكرين لم يوليا اهتماما كبيرا في علاقاتهما مع الدول الأفريقية لأسباب قد لا يجهلها أحد، وكذلك في علاقاتهما مع بعض دول أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية بسبب الدور السلبي الفرنسي في هذا الصدد.
و في المحصلة، ولأجل فهم العقلية السياسية النخبوية القمرية لا بد من قراءة دقيقة وعميقة على الطريقة التي يؤثر فيها نظام الثقافة المختلفة لصانع القرار، على عملية صنع سياسة لها مبادئ و أهداف وتوجهات محددة؛ لأن المؤسسات الحكومية لا تشارك في صنع سياسات الدولة كما أرى، وأن طبيعة الأيدولوجية لصانع سياسة الدولة، تحدد طبيعة ومسار سياسة الدولة، بحيث لا تحقق مصالح قومية أو وطنية إلا القليل اليسير وبعيداً عن العقلانية الرشيدة.