ينتابني شعور من أعماق قلبي؛ بأنّ الجميع يحلم بمستقبل برّاق، وتغيرات كبيرة تبرق نحو سواحل أرض الرّباط القمريّ، بملامح الازدهار، وصدق التّقدم، وتمنية العيش النّبيل، وطمع نفوذ الدّول النّاعمة، من تطاول البنيان، وإطالة الجسور والأنفاق ذات أنوار مشرقة ومتلألئة، وبسط الطّرقات بالإشارات الضوئيّة، وابتكارات تكنولوجيّة، بمقاييس عالميّة تتحف سماع السّامعين، وتقنع أبصار النّاظرين، لما فيه؛ نتيجة استخراج البترول، والمعادن النّفيسة الّتي بها تتزيّن البلاد بأموالها الطائل، وإنّما الواقع المرئيّ ينبّئني ولست بساحر ولا نبيّ مرسل، بأن أتخيّل بصدق التّخيّل وكأنّها حقيقة ستشهدها العيون بما سيحدث بعد ثلاثين سنة من الآن في المجتمع القمري.
الوطن عزيز القلب ومحدّث الزّمان، وأنيس من لا أنيس له، والبكاء لأطلاله شعور لا يغيّرها الدّهور، فحديثي ليس من النّاحيّة السّابقة من طمع الدّنيا، وإنّما عن شباب الوطن نحو تغيّرات قد أراها فيهم سلبيّة ويراها غيري إيجابيّة، تغيّرات ستبدأ بالفرد ثم تزري بالبيوت وتجعلها كالمعلّقة، وكأنّها لا قيمة ولا دور لها في المجتمع، وهي واقعة توحى إلى أن تصير تلك البيوت أهون من بيت العنكبوت إن لم تُنتبه لها، وتلك هي السّوءة من بيوت كانت وما زالت أسسها دينية، وسقفها من نسيج إيماني، وسكانها جبال شامخات بدينهم الحنيف وأخلاقهم الطيبّة نبتت من محبة الله ورسوله واتباع أوامره واجتناب نواهيه، فكيف وإن انقلبت الموازين وانتصر الباطل على الحق؟
وإن لزم الأمر سأرجع إلى الوراء قليلا، لأذّكر لمن يهمّه الأمر بأنّ هذه التّغيّرات الموبقة، قد تؤدي بالأجيال القادمة إلى ما لا يُحمد عقباه من الانحراف الخلقي وضياع الدّين وفساد الشّباب، إذ أنّ الواقع يؤكد لنا بأنّ الشّعب القمريّ يعيش أيام بقايا رؤية الأجداد والآباء الأفاضل، من تفضيل تعليم القرآن الكريم قبل سائر العلوم، بقولهم:(القرآن الكريم أولًا قبل المدارس الفرنسيّة)، ففي نظرهم لا ينبغي للباطل أن يدرك الحقّ ولا اللّيل سابق النّهار وكلّ في مجراها المحقّ لها، فهي نظريّة حقّقت كثيرا من الإيجابيات والإنجازات المحمودة، وأخرجت أجيالًا يحملون شهادات عليا عالميّة وعلميّة في الخلق والعلم والفنّ والعمل، والّتي بها تُرى ثمارها في المجتمع من مختلف العصور.
وللأسف، صارت هذه النّظرية عند بعض الأشخاص نوعاً من التّخلف والرّجعيّة، وفضّلوا الشّر على الخير، فانسلخت فيهم البركة، وآلت سلوكهم وأخلاقهم إلى ما آلت إليه تلك المبادئ القيّمة، وأصبحت الشّهادات أكاديميّة بلا خلق ولا نفعة تذكر، كيف لا؟ وقد سقيت عقول هؤلاء بماء خالٍ من بركة القرآن والعلوم الشّرعيّة، إذا، فهل تلك التّغيّرات جاءت صدفة بغفلة داخلية؟ أم هو أمر دبّر بليل بتخطيط وتدبير ثم تنفيذ من جهة خارجيّة؟ أهو ضعف أو قلّة خبرة للجهات المختصّة أم هي غزوة بين الحقّ والباطل فينتصر الباطل؟ ثمّت تساؤلات أهديها لمن يشاركني في هذا القلق النّفسي الّذي صار يمذّلني ليلا ونهارا، ولم أجد لها جوابا يشفي غليل صدري.
يا ليتني عشت في النأنئة، فإجابة هذه التّساؤلات تجبرني أن أبيّن بوضوح الشّمس بعض تغيّرات متوقّعة، ترصدها جولة التّجربة والحياة والواقعيّة؛ وأنّها نازلة لا يردّها إلّا العزيز الأكرم، فإنّه القادر الّذي سيحفظ الشّباب من هذه الكتمة الطّامة، ومن تلك التّغيّرات
1-: هجران التّعاليم الدّينية: فهي أصالة الطّغيان، وأساس كلّ فساد، وأنّها تؤدي إلى هجر القرآن وعدم القدرة على قراءته وحفظه، ولا سيّما تدبّر معانيه والتّمسّك بما جاء فيه، ظاهرة مؤلمة من شاب بلغ عمره 12 سنة لا يستطيع قراءة القرآن، والواقع يشهد ذلك والعياذ بالله، مع أنّ أغلبيّة الشّعب هم من الشّباب، وإن كانت الغالبيّة جاهلة، فما بعد الحقّ إلّا الضلال المبين؟ والله المستعان وإليه الثكلان.
2-: الانحراف السّلوكي والخلقي: فهو داء الزّمان، ومفسد الأهل والعيال، دواءه لا يشترى بمال، ولا يباع في الأسواق، سوى اهتمام الرّاعي بالرّعيّة، تأمّل من شابّ في زمن المراهقة، كبرت عنده الملذّات، وفقه جميع أنواع الإحساس قد يرتكب الجرائم؛ لأنّه لا يدرك مغزى الأوامر والنّواهي، ولا متى كانت حلالا أم حراما، فتلك والله مؤلمة
3-: خراب الدّيار: مجتمع قد تكون بيوته من زخارف الجمال، بنمارق مصفوفة، وزرابيّ مبثوثة، وطوابق بعضها فوق بعض، ولكن أسرها فاسدة لا تجمعهم الشّملة، ولربّما تجمعهم مائدة طعام أو مواقع التّواصل الاجتماعيّة، وهذه نتيجة من أب جاهل وأمّ لا تهمّها إلّا الرّونقة والمظاهر والجمال. فإلى أيّ محطة تسير تربية هؤلاء الأبناء؟.
إنّه الفشل الفادح، والفساد الكلّ، فخراب البيوت هو فساد المجتمع كلّه، فعلى الجهات المختصّة أعني وزارة الشّؤون الإسلاميّة وغيرها، أن ينتبهوا للنّقاط التّاليّة قبل أن يصيب الشّباب الغرق ويبيت فيهم النّدم: فتقوية نظام الكتاتيب والمدارس القرآنيّة، وتطوير المناهج الدّراسيّة، وإكثار ساعات المواد الشّرعيّة في المدارس الفرنسيّة. وظهور دور الوالدين في تقويم الأسرة، وحفظ الأولاد والتّواصل معهم ومراقبتهم نحو ما يتصفّحون في الانترنت والقنوات الفضائيّة، وظهور دعاة الخير في المواقع التّواصل الاجتماعيّة لتوعية الشّباب، تقّل خطر تلك التّغيّرات السّخيفة، وعلى المرء كذلك حسن اختيار الصّحبة وفارسة أحلامه لبناء أسرة ناجحة، تشرق نورها ببركة الإسلام.
وخير ختام، نصائح من قلب أخ منكسر، يقصد بها حول هذه السّطور القلميّة إلى ولاة الأمور، بألّا يتعجّلوا من التحاق أبنائهم بالمدارس الفرنسيّة، قبل أن يتمكّنوا من قراءة القرآن وفهم مبادئ الدّين، مع العلم بأنّ الرّوضة لا تحلّ محلّ الكتاتيب القرآنية ولا تقوم بوظائفها، والله حسبنا ونعم الوكيل ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العظيم.
الكاتب /فضيلة الشيخ سليمان محمد يوسف