من جزر القمر

    حزن يومي (الفصل الأول)

    اليوم سأنتحر ، الساعة الآن الرابعة صباحا هذه المدينة تبدو مخيفة وساكنة جدا في هذا التوقيت


    لطالما احببت الاستيقاظ في هذا الوقت ,السكون الذي يحيط باالمكان يجعلني أحس بأنني أسيطر علي زمام
    الأمور كلها,أعددت قهوتي كالعادة ,حاولت ترتيب المنزل ,إنها عادة يوميا أمارسها منذ أن كنت في الثالثة
    عشر من عمري ,في بعض الأحيان عندما لا يكون ثمة أية فوضي لترتيبها أشعر بحزن ما,جدتي نائمة كطفلة
    وديعة,أما قطتنا سوكي فهي تقفز في الأرجاء ,جلست علي مقربة من النافذة,أغلقت عيناي أستطيع الشعور
    بالأرض وهي تتحرك بسرعة مخيفة ,أتخيل سقطة ما قوية ,كل الأشياء تتساقط دون أن تشعر بذلك ,إنني
    أشاهد الجميع وهم يندفعون نحو هاوية مبهمة دون أن يشعروا بما يحدث,”علي أن أذهب من هنا يا ثريا فهذا
    المكان يخنقني ببطء” أكرر لنفسي ما قاله عيسي لي قبل الرحيل ,لم أحاول منعه لأنه ماكان ليبقي من أجلي
    “الوداع إذن ” قلت له دون أن أظهر أي علامة لحزن ما,أتذكر تحديقه الطويل بي قبل موادعتي ,كان في
    عيناه غموض ما مقزز,غموض بارد أشعرني بحاجة إلي التقيؤ والبكاء,عدت إلي المنزل وأنا أركل كل ما
    أجده أمامي من حجر صغير ,كدت أختنق من الوجع ,عيسي وحده الشخص الذي شعرت بحياة ما قربة منه
    ,كنت أحب الجلوس معه لساعات طويلة والتحديق إلي البحر أو السير في الأزقة بلا هدف,اللاهدف هذا كان
    بالنسبة لي هدف عظيم ,منذ أول لقاء أدركت بأنه مختلف عني ,لكن شيئا ماغامض ذلك الغموض ذاته الذي
    رأيته في عينيه يوم رحيله جعلني أتمسك به بقوة,كان مليئا بالحياة وأحاديثه مفعمة بحيوية جذابة ,أردت أن
    أسحب شيئا من تلك الحيوية لي لكنني لم أستطع الاحتفاظ بأي شئ منها ,كان يردد دائما لي “عليكي أن
    تستقبلي كل لحظة فرحة تقدمها لك الحياة قبل أن تبتلعك الكآبة” وكنت أبتسم لأنه ما كان ليفهم ما يحدث لي
    حقا ولم أكن قادرة علي شرح أي شئ إلي مخلوق آخر.
    ماذا سيحدث إذن بعد موتي ؟ الساعة السابعة مساء سوف أرحل ,لماذا السابعة تحديدا؟ حسنا لأنه
    التوقيت الذي ولدت فيه ..جدتي ستكتشف الأمر غدا ,أو ربما بعد غد ,مما يعني أن تغيرات مخيفة سوف تحدث
    لجسدي ,ربما ؟ قد تبكي, قد تقول لنفسها من سيهتم بي الآن ياتري؟ من سيعد لي الطعام ؟من سيرتب المنزل ؟والقطة ؟ ستبدو يائسة تماما.
    البارحة حلمت بأن شخصا ما غريبا نائم بجانبي وكان يحاول أن يحتضنني بقوة ,كنت أقاوم كل مرة
    ,كنت خائفة قمت مسرعة من السرير , لكنه ظل يركض خلفي كظل طويل, كان يسير معي خطوة خطوة,بعد
    ذلك لم أتمكن من رؤية أي شئ سوي عتمة شديدة,حينها خيل إلي أنني تمكنت من الهرب من ذلك الظل ,كان
    ذلك الظل هو الموت.. ثم ماذا بعد ؟ لا شئ, استيقظت , واعترتني رغبة ملحة للرحيل .
    إنه لمن الصعب كتابة ما يجول في خاطري ,أريد أن أكتب كل شئ, إن أتقيئ هذا الألم.
    يخيل إلي في بعض الأحيان أن حياتي ليست سوي مَضيعة للوقت ,هه ياللسخرية إنها كذلك
    بالفعل,إنني أكتب الآن ليس رغبة بأن يقرء أحد ما، ما كتبته وإنما رغبة في الهروب, الكتابة تعد هروبا مؤقتا
    بالنسبة لي.أفتقد عيسي ولا أعرف كيفية التعبير عن هذا الشعور له ,أقصد إنه لن يفهمني ,في بعض الأحيان
    اتسأل “هل بإمكانه أن يفهم مايعتري الإنسان الطبيعي من عواطف حب ؟ كلا ليست تلك العواطف الطبيعية
    المتعلقة بالصداقة أو الأسرة,إنني علي يقين بأنه يجيدها بطلاقة أقصد أنه يفهمها ويقدرها ,لطالما اعتبر الحب
    سخافة أخري يتعلق بها الحمقي هروبا من ألامهم , هل أنا سخيفة لأنني في هذه الآونة الأخيرة اعترتني رغبة
    في الوقوع في الحب ؟ بل إنني أشعر في بعض الأحيان أن قلبي يكاد يقتلع من مكانه عندما أفكر فيه ..كيف
    سيستقبل خبر تعلقي به هذا ؟ أقسم بأنه سيبدي رد فعل سخيف,أو ربما سيضحك من طفولتي الساذجة ,كم أن هذا الشعور مقيت .
    كيف بإمكان هؤلاء البشر الشعور بتلك السعادة ؟ ماذا يفعلون حتي يصلوا لهذه النشوة ؟عندما أتنزه في
    الحديقة وأشاهد الجميع في حالة سعادة ما ينتابني شك في كوني بشرية مثلهم , كيف لي وأنا أشبههم من لحم ودم
    لم أجرب هذا الشعور من قبل ؟ وأتذكر قول محمود درويش “هل كنت سعيدا دون أن أدري”؟.
    إنني أفكر دائما ,أفكر حتي أكاد أجن من التفكير, ليس ضروريا أن يكون ما أفكر به أو فيه شيئا مهما
    ,الضجيج المربك ,أريد أن أبكي .
    أعتقد أنه ثمة لعنة ما ملتصقة بي تطرد كل من أراد أن يحبني ,كم أن مجرد التفكير في هذا مخيف
    ,أووه ليست فكرة اللعنة بحد ذاتها المخيفة بل معرفتي التامة بأن أحدا لم يرد يوما أن يحبني بالفعل.
    الساعة التاسعة صباحا اتصلت بعيسي هاتفيا , لقد قررت أن أبوح له بمشاعري تجاهه, كما توقعت
    تماما كان باردا وأجابني بصمت طويل مزعج, ثم أعقب بعد ذلك الصمت سؤالا ساذجا “ومنذ متي وأنت
    تبادلينني هذا الشعور؟”.لا أدري منذ متي تحديدا وكيف أو لماذا ,إنني فقط أحبك هكذا “إنني أحبك فهل هذا
    يعنيك ؟” غوته . تذكرت هذا الاقتباس المنسوب لغوته, لقد قرأت ذلك في كتاب سيمون دي بوفوار “مذكرات فتاة رصينة .
    لم أشعر حقا بحزن حقيقي نتيجة رد فعل عيسي البارد ,إذ أنني في نهاية اليوم لن أكون علي قيد
    الوجود فلم الحزن إذن ؟ أردت فقط أن أطلق سراح هذا الطائر المحبوس داخلي .أن أكون حرا من أي مشاعرعندما أموت .
    أتوقع الآن أنك أيها الفضولي أو الفضولية ترغب في معرفة المزيد عني ,ربما ؟ أو ربما إنك لا تهتم
    .حسنا إذن , لست أكتب هنا عن قصة حياتي كاملة , إنني أحاول أن أحرر هذه الكلمات المدفونة التي كانت
    تخنقني طوال تلك السنوات والتي لم أتمكن يوما من الإفراج عنها,لقد كانت سجينتي وكنت أنا أيضا سجينتها
    وها أنا ذا الآن أحاول إطلاق سارحها أملا منها إطلاق سراحي.
    “فتاة مدللة ضعيفة وساذجة, تفضل الاختباء بدلا من المواجهة ” هكذا كانت تكرر جدتي في أذني دائما
    كلما واجهتني مشاكل ما وهربت منها ,لقد كانت محقة بالفعل وها أنذا أختار الهروب من أن أواجه كل هذه
    القذارة . أعتقد أن من يحاولون التأقلم أو مواجهة الظروف الصعبة هم يأملون بطريقة ما أن تتغير الظروف لألحسن أو يحاربون من أجل تغيرها ,أما انا فأنا لست أمل اي تغير أو تحسين,إنني أدرك جيدا بأن استمراريتي لن تكون سوي مضيعة للوقت والمجهود

    بقية القصة قادمة

    تكتبها سعيدة سيد

    خريجة الشرعة والقانون جامعة الأزهر

    Leave a Reply

    Your email address will not be published. Required fields are marked *

    Back To Top