كان لقائي الأول بمعالي الدكتور حامد حمد كرهيلا، الدبلوماسي القـَمري القدير في صيف سنة 2010م حينما وطأت قدماي الجزر القَمريّة أول مرة؛ بحثاً عن الوثائق والمخطوطات الدالّة على العلاقات التاريخيّة العمانيّة القمريّة، لبحث مموّل من جامعة السلطان قابوس، التي كنت أعمل بها. وصلت عاصمة جزر القَمر مدينة “مروني” العتيقة الجميلة، وما لدي علم أين أجد مبتغاي، وكيف أخطط رحلتي! كلّ ما عندي كان رقم نقال الدكتور كرهيلا. فتواصلت معه مباشرة، وضربنا موعداً للقاء في اليوم نفسه. التقينا، وتحدثنا طويلاً عن مهمتي وعن تاريخ الجزر، وتحدّث الدكتور كرهيلا عن كتابه الذي كان يعمل عليه حينها، والمتصل بالعلاقات التاريخيّة الوطيدة، بين جزيرة موهيلي وزنجبار، والصراع بين البوسعيد والفرنسيين على حكم هذه الجزيرة، وموقف سلطانة تلك الجزيرة جومبيه فاطمة المتغيّر بين طرفيّ هذا الصراع. وقال الدكتور: “إنّ هذا المشروع مكتمل لكن ينقصه العنوان”. علّقت قائلاً: “إنّه صراع الحب والسلطة، يا سيّدي”. قال الدكتور: “هذا عنوان رائع”. وأوقف سيارته وسجّل على قصاصة ورقة هذا العنوان؛ خوفاً من أن ينساه.
هكذا -قويّة- بدأت معرفتي بالدكتور حامد كارهيلا، واستمرت بعد ذلك لنعمل معاً على عدة مشاريع ثقافية أخرى، أشار إليها -مشكوراً- الدكتور في هذه السيرة الذاتيّة. وأبرز هذه المشاريع تنفيذ الأيام الثقافيّة العمانيّة القمريّة، في الجزر، في الفترة 8-16 يونيو 2013م، وفي ذلك الوقت كنت أعمل بجامعة نزوى، مديراً لمركز الخليل بن أحمد الفراهيدي للدراسات الإنسانيّة والعربيّة، وقد تآزرت مؤسسات أربع لتنفيذ هذه الفعاليّة، المهمّة، وهي إلى جانب جامعة نزوى: مكتبة الندوة، ودار الغشّام للنشر والترجمة، ومؤسسة الوفاء القمريّة. وكان الدكتور كارهيلا الشريك الفاعل في صياغة البرنامج العلمي والثقافي والاجتماعي، وتنفيذه، والتواصل مع الحكومة القمريّة ممثلة في وزارة التعليم العالي. وقد شارك في هذه الفعاليّة أساتذة وأدباء مرموقون من البلدين الشقيقين، ومن الشقيقة الكبرى جمهوريّة مصر العربيّة. ونُفّذت فعاليتها في ثلاث جزر، هي: القمر الكبرى، وجزيرة أنجوان، وجزيرة موهيلي. وزارت قافلة هذه الفعاليّة جامعة جزر القمر وبعض المدارس وكثيراً من مجالس القرى القمريّة والجوامع، واستقبلت بالأهازيج الشعبيّة والرقصات والورود، أينما حلّت.
لقد أبانت هذه الفعاليّة عن الوشائج التاريخيّة والعلاقات الأسريّة التي تربط الشعبين الشقيقين. وفتحت المجال لمزيد المساهمات التنمويّة العمانيّة لجزر القمر، خاصّة في مجال البعثات التعليميّة. وهو مجال أدعو إلى المحافظة عليه بل إلى مضاعفته مرات عديدة. فمن خلال معرفتي بالجزر أرى الحاجة الشديدة إلى توفير بعثات علميّة لأبناء الجزر. وفائدة هذه البعثات عظيمة على المجتمع القمري ورقيّه وتنميته على يد أبنائه القادرين المتعلمين. والشيء بالشيء يذكر، فإنّ تفعيل المشاركات الثقافيّة المتبادلة بين عمان وجزر القمر سيعمل على تقويّة هويّة الجزر الإسلاميّة العربيّة، ويحيي تلك العلاقات التاريخيّة الوطيدة بين الشعبين الشقيقين.
وقد سعدت بطلب الصديق العزيز معالي الدكتور كرهيلا مراجعة مسوّدة هذا الكتاب “عندما كنت صديقاً للرئيس غزالي”، وذلك لما وجدت في مؤلفات الدكتور السابقة من غزارة في العلم والتجربة، ونصاعة في البيان والصياغة. وهو كتاب يسير فيه مؤلفه على نهجه المعتاد في التعريف بجزر القمر، أرضاً، وتاريخاً، وإنساناً. ويمتاز بأنّه سيرة ذاتية صاغ فيها المؤلف خلاصة تجاربه في ميدان العمل الدبلوماسي، والإداري، والثقافي، ممثلاً للجزر خير تمثيل في المحافل الدوليّة العربيّة والإسلاميّة والعالميّة، وباذلاً جهده الكبير والاستثنائي في خلق العلاقات الرسميّة بين الجزر ومحيطها الحقيقي، العربيّ الإسلاميّ على بعد الشقّة، وضعف التمثيل القمري، رسميّاً وشعبيّاً.
وهذا الكتاب موجّه إلى القارئ العربيّ، عموماً، وإلى الشباب القمريّ، خصوصاً، ليتعرّف على واقعه المعاش بما فيه من ألم وأمل، وأن يتعلّم الدرس الأساسيّ، وهو أنّ بناء الأوطان يحتاج الكثير الكثير من التجرّد والبعد عن الأنانيّة. وقد قدّم الدكتور القدير حامد كرهيلا حقائق مثبّته بالأدّلة عن جهوده في خدمة الجزر، ورؤيته العميقة والبعيدة لمستقبل ذلك الوطن العزيز؛ بمزيد من الانغماس في محيطه الإسلامي العربي. وذكر، بما لا يدع مجالاً للشك، رغبة الدول العربيّة مساندة جزر القمر والتبرّع بسخاء لبناء البنية التحتيّة فيها، وتعمير المشاريع في مختلف المجالات. وقد حدّد الدكتور داء مستديماً يمنع تنفيذ بعض المشاريع ويعرقلها، وهو جشع المسؤول المتنفّذ. فإن لم يحصل المسؤول، الذي لايشبع، النصيب الذي يريده من الحصّة النقديّة المحدّدة تلك المشاريع. إنّ هذا الفعل البشع ضرب من ضروب الفساد، واستغلال السلطة، واستغفال الشعوب.
ومن ناحية الصياغة فإنّ الأسلوب السرديّ، الممزوج بالوصف، والتحليل خلق ترابطاً ماتعاً لفصول الكتاب، ومكونات كل باب فيه. وما أورده الكاتب من الأمثال القمريّة، وكذلك ما ذكره من القيم الأخلاقيّة القمريّة النبيلة تضفي على الكتاب روحاً جميلة آسرة.
إنّ هذا الكتاب زفرة وطنيّ غيور على بلده. وقد قدّم الكثير لهذا الوطن، ومن حقّه أن يُشرك في إدارة وطنه.