للقواعد النحوية فقه قد يغيب عن أكثر الناس ، إما لأنهم لا يدركون معنى المصطلح ، أو أن المصطلح عنده جسم مرئي لا روح فيه كأن يعلم أن الاسم إذا وقع بعد فعل رُفع فاعلًا له ، أو الاسم الذي يلي ” إن ” ينصب اسما له ، و لكنه في الحقيقة لا يدرك المعنى الحقيقي لهذه القواعد و ما الذي جعل الاسم الذي يأتي بعد الفعل مرفوعا ، و هل كل اسم أتى بعد فعل يكون مرفوعا ؟ فلو جاء الاسم بعد تلك المواضع التي ثبت في ذهنه أن الاسم الواقع بعده يكون كذا ، و لم يأت على صورته التي يعرفها ، حكم على الشاهد أو المثال بالخطل و الفساد ، و لذلك نبه النحاة – كثيرا – في هذه القضية و قالوا : إن الفهم نصف الإعراب ، و لا بد لنحوي أن يتذاكى في استنباط الإعراب ، فالطالب الذي اعتاد حفظ القواعد دون التغور في كُنه معناها لو سمع مثل قراءة ( إنَّ هذان لساحران / طه) يُخطِّئها زعما أنها شاذة خارجة عن القياس الذي يعرفه ، و ما أخطأ إلا هو .
إني أريد بهذه المقدمة أن أسوقك إلى تفقه بقاعدة نحوية جليلة ، و هي إعمال ” لا ” عمل ” إن ” ففيها دقيقة لطيفة ، لا ينبغي لطالب هذا العلم أن يعرض عنها .
هذه اللام تعرف في أوساط العلماء المشتغلين بهذا العلم ، و في دارسيه بأنها ” لا ” النافية للجنس ، و عليك أن تعلم أن تحديدها بأنها نافية للجنس ؛ للفرق بينها و بين غيرها من اللامات ، فإنه لديك عدة لامات في النحو العربي ، و معنى أنها نافية للجنس ، أي : أن نفيه يغرق جميع أفراد ذلك الجنس الذي نفيتَ عنه ما أردتَّ ، فإن كنت قد فهمتَ هذا فقد علمت أن معنى الاستغراق هو الشمول و علمت أن ” لا ” النافية للجنس تشترك مع النكرة ، فإن النكرة معناها الشمول و الاستغراق .
لكي تعمل هذه اللام عمل ” إن ” ذكر العلماء لاسمها شروطا لا بد أن تتحقق و إذا فُقد شرط واحد من الشروط المذكورة لم تعمل و كانت مهملة ، فمن هذه الشروط هي :
الأول : أن يكون اسمها و خبرها نكرتين ، فلا تعمل إن كان أحدُ اسميها معرفة.
الثاني : أن يباشرها الاسم ، أي : أن لا يُفصل بينها و بين الاسم بشيء.
الثالث : أن لا يدخل عليها الجار ، فإن دخل عليها الخافض لم تعمل.
الرابع : أن لا يتقدم خبرها على اسمها و إن كان جارا و مجرورا.
و ثَمَّ شرط للفرق بينها و بين ” لا ” التي تعمل عمل ليس ، و هو : أن يكون المنفيُّ الجنسَ ، فإن أردت نفي الواحد ، فهي تكون ” لا ” التي معناها ” ليس ” و أن يكون نفيه نصًّا.
هذه الشرائط المتعلقة بعملها ، و ننتقل إلى ما نهدف إليه ، و هو :
لتستطيع أن تفرق بين اللامات ، إنَّ أمر ذلك يرجع إلي ما تَنويه أنت و ما تريده ، أي : إلى المعنى الذي تريد أن توصله إلى المخاطَب ، فـمثلا : لو أردت نفي وقوع جنس من أجناس الأشياء ، أو أردت أن تنفي جزءا من هاتيك الأجناس ، فإنك أمام خيارين ، و قد علمت أن اسم ” لا ” التي لنفي الجنس يكون مبنيا على الفتح و يكون منصوبا ، فما الفرق بينهما ؟ أعني أن يكون اسمها مبنيا أو منصوبا ؟ الجواب على ذلك في الخيارين التاليين :
الأول : يكون اسم ” لا ” مبنيا على الفتح إذا كنت نويت أن تنفي جنس الشيء ، كـقولك : لا مرورَ لزيد هنا اليوم ، فإنك قد نفيت عنه جميع المرور ، و أنه لم يقع منه مرور إطلاقا ، فإذا كان كذلك وجب فتح اسم ” لا ” و تَبنِيه على الفتح ، و لا يحسن إلا هذا ، و من ذلك قول الله – تبارك و تعالى – ( ذلك الكتاب لا ريب فيه / البقرة) و قوله – سبحانه – ( قال لا تثريب عليكم اليوم / يوسف) فإنه نفى أن يكون الكتاب فيه ريب و شكّ في جانب من جوانبه ، و ليس المعنى أن لا أحد يشك فيه ، و الآية الثانية نفى سيدنا يوسف – عليه السلام – أساسَ اللوم على إخوته و أنه لا يلومهم في أي شيء فعلوه به أبدا.
الثاني : يكون اسمها منصوبا ، إذا كان مضافا أو شبيها بالمضاف ، و معنى ذلك أن النفي لم يستغرق جميع الأفراد ، و إنما خصصتَه و أوقعتَه على جزء معين من هذا الجنس ، كقولك : لا غلامَ سفرٍ حاضر ، و قولك : لا مرورًا لزيد اليوم ، أو لا طالعا جبلا حاضر، فإنك لم تنف الجنس كله ، لأنك لم ترد في المثال الأول جميع الغلمان في الدنيا ، و إنما أردت جنسا معينا من الغلمان و هم الموصوفون بالسفر ، و لم تنف عن زيد المرور كله ، و إنما نفيتَ مرورا معينا لم يقع منه ، و هكذا بقية الأمثلة.
فقد رأيت أن الإعراب تغيَّر من إعراب إلى آخر طبقًا لما يريده المتكلم من معنى في نفسه ، فـمن رام حفظ القاعدة المجردة دون فهم هذه النكت و الدقائق التي خفيت وراء هذه القواعد فإنه – بطبيعة الحال – لن يستطيع أن يدفع نفسه إلى الأمام ، و سيرى أن علم النحو صعب جدا ؛ لأنه يرى القاعدة الواحدة تتغير من حال إلى أخرى ، و هو لا يدرك تلك المعاني و لا يلاحظها ، و من أجل ذلك قالت النحاة : المعنى نصف الإعراب ، لأنك إن لم تسطع أن تميز بين تلك المعاني فلن تستطيع أن تعرب الجملة التي تريد.
نصيحتي لكل طالب يتعلم علما من العلوم أن يطلب التفقه في مصطلحات ذلك العلم ، فإن التفقه فيها هو السبيل الذي يوصلك إلي غايته ، و إلا كان الأمر على عكس ذلك ، فلا تكن مجرد وعاء يحفظ و لا يعي ما يحفظه ، و عليك أن تفهم أولا ثم احفظ ما فهمتَه ، أرشدك الله إلى الصواب ، و فتح عليك فتوح العارفين !
عفيف إسماعيل يوسف
طالب دراسات عليا في اللغة العربية وعلومها- جامعة الأزهر