اعلم – يرحمك الله – أن دراسة النحو خاصة ، أو العلومِ اللسانية عامة ، لمَّا كان انتماؤها عربيا خالصا محضا لا يشوبه كَدَرٌ من درن العجم ، كانت عبارات القوم وجيزة ، جامعة فصيحة ، ما كنت تلحظ الجمل الطويلة إلا نادرا ، ذلك لأن المادة كانت مشبَّعة بروح العرب و بيانهم ، و قد عُرفت العرب في قديم الزمان بقصر الجمل في كلامها ، و وجازة اللفظ الحاوي للمعاني العديدة ، حتى صاروا هم أمة البيان.
لكنك إذا طويت صفحتهم القديمة ، و تتبعت المنتسبين إليهم في هذا الزمن الذي يعتريه الوهن ، رأيت عكس ما كان عليه القوم في مخاطباتهم ؛ لأنهم – كما يسمون أنفسهم – منفتحون مع الأمم الأخرى ، فقد تقرأ لكاتب هذا العصر جملة مكونة من سطرين و مع ذلك لا يعطيك من المعاني إلا الهزيلة الرقيقة ، و لا يهز كيانك الداخلي ، و كل ذلك نتيجة تأثرهم باللغات الأجنبية.
من أوضح مثال لذلك أنه قد غاب عن أذهان كثير من الناس طريقة استعمالهم الأمثلة المأخوذة من المصدر و بُنيت عليها الأزمنة ، أعني ( الأفعال) ، فإن بعض اللغات العالمية ليس لديهم من الأفعال إلا ثلاثة أنواع : ماض – حاضر – مستقبل ، و ليس هكذا في العربية ، و إن كان بعض الطلبة يُتهمون بهذا الفهم السقيم ، فإن الماضي وحده في العربية على ثلاثة أنواع ( ماض منقطع – ماض مستمر – ماض بمعنى المستقبل) و هذا البيان شائع عند العرب ، فلا يسوغ لأحد إذا رأى فعلا ماضيا أن يحمله على وجه واحد و هو الانقطاع إلا بدليل ، و هذا الجزء دقيق جدا ، لا يتقن استعماله إلا الحذاق من الناس ، فأكثر الناس إذا أراد أن يعبر عن حادث حاضر سارع إلى المضارع ؛ ظنا منه أنه الذي يُبنى عليه الحضور ، و هذا خلاف ما استقر عند العرب.
و دليل هذا الذي ذهبت إليه في كتاب الله و كلام رسوله و في كلام العرب ، فلو أردت أن تقول شيئا مضى و انقطع قلت كما في قول الله – جل ثناؤه- ( قالت الأعراب آمنا… ) و قوله حكاية عن الأمم ( كذبت قوم نوح المرسلين) و هذا قول قيل في الزمن الماضي و انقطع ، و أما أن يكون مستمرا فكقول الله – تعالى – ( و كان الله سميعا بصيرا) و كل ما كان على هذا النمط ؛ لأنه لا يمكن أبدا أن يوصف الله بأنه سميع بصير في القديم و انقطع ، لأن هذا هو الكفر بعينه ، فليس سمع الله منقطع و لا بصره و لا تكلمه ، و أما أن يكون المثال المُضيُّ خالصا في المستقبل كقوله – تباركت أسماؤه – ( أتى أمر الله ) فالمعنى أنه آتٍ .
فمن هذا تبين لك خطأ ما ترسخ في أذهان الكثيرين أنهم يحكمون لكل مثال على صورة الماضي أنه قد مضى و ليس كذلك .
و من الخطل البين أيضا أنهم يعتقدون إذا أراد تَكلُّمَ معنى في المستقبل و لكنه يريد أن يعبره بالمضارع فيأتي باللوازم التي تخلص المضارع في الاستقبال ؛ ظنا منه أنه إن لم يأت بتيك اللوازم لم يكن المعنى للاستقبال بل للحاضر ، و هذا قصور أيضا ؛ لأن الأمثلة التي تُبنى على المضارع تحتمل معنيين ، فإذا قلت : أقرأ أو أذهب فهو على معنى الحال و الاستقبال ، فإذا أردت أن تبين للمخاطب مرادك أتيت بالحروف التي تخلص المضارع للاستقبال ، فلا يلزم إذا ما قلت : آكل ، أن يكون معناه الحال ، فقد أقول ذلك و أنا أريد المستقبل ، و الله يقول ( و ربك يخلق ما يشاء و اختار ) و الخلق هنا قد وقع على الماضي و الحاضر و ما يستقبل .
إذا كنت فهمت ما ألقيت عليك فقد عرفت – الآن – التأثر الكبير الذي مسَّ الدراسات اللغوية و خاصة النحو ؛ لتداخل اللغات و الثقافات ، و المعارف التي لا تمت إلى العرب بصلة ، و هذا قد أحدث تغييرا كبيرا في أفهام الناس ، و أبعدهم عن مسلك أسلافهم ، و عن طريقة استبصار كلامهم.
عفيف إسماعيل يوسف
طالب دراسات عليا في اللغة العربية وعلومها- جامعة الأزهر