العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل

    إن أكثر دارسي العربية في أيامنا تجدهم يحفظون القواعد النحوية – و هذا مطلوب – و لكنهم – في الوقت نفسه – يعانون أن يطبقوا تلك القواعد و ينزِّلوها على جزئيات الكلام في محادثاتهم بالعربية ، و سبب هذا عدم تعود اللسان على التحدث بالفصحى ، بل بعض الطلبة يستحيون من اتخاذ التخاطب بالفصحى في حديثهم اليومي ، أو فيما بينهم .
    و بعض الطلبة لديهم تيكم القواعد ، ماهرون فيها ، لكنهم عاجزون عن كتابة سطر إذا طُلب منه ذلك لأخيه أو أحد أعزائه ،  و هذا ينشب عندهم لأنهم يزعمون أن الملكة اللغوية إنما تكون على غرار حفظ القواعد النحوية و الصرفية و غيرها مجردة ، و الحقيقة أن الملكة اللغوية تكتسب في حفظ الكلام المنثور من العرب و أشعارهم و أمثالهم  ، و طريقة تخاطبهم في محادثاتهم ، فـمَن يحفظ كَمًّا كبيرا من أساليب العرب تَحصَّل له الملكة اللغوية ؛ لأنه إذا تكلم نزَّل كلامه على طريقة كلامهم ، و ضارع كلامُه كلامَهم ، حتى يكون كأنه عاش بينهم ، أما القواعد النحوية فهي كما يقول ابن خلدون – سقى الله ثراه و قدس روحه – : فإن العلم بقوانين الإعراب إنما هو علم بكيفية العمل ، و ليس هو نفس العمل.
    و لهذه الفكرة الخاطئة لا تستبعد و لا تستغرب إذا وجدت من تَحصَّل له هذه القواعد و حفظها عن ظهر قلب ، و لا يُقيم جملة واحدة عربية ، أو سطرا يعبر به عن حاجة ، أو مكنون ضميره ، و هذا نفسه ما تكلم به العلامة ابن خلدون قائلا  : و قد نجد بعض المهرة في صناعة الإعراب  ، بصيرا بحال هذه الملكة ، و هو قليل و اتفاقي ، و أكثر ما يقع للمخالطين لكتاب سيبويه ، فإنه لم يقتصر على قوانين الإعراب فقط ، بل ملأ كتابه من أمثال العرب و شواهد أشعارهم و عباراتهم ، فكان فيه جزء صالح من تعليم هذه الملكة ، فتجد العاكف عليه و المحصل له ، قد حصل على حظ من كلام العرب و اندرج في محفوظه في أماكنه و مفاصل حاجاته ، و تنبه به لشأن الملكة ، فاستوفى تعليمها فكان أبلغ في الإفادة، و من هؤلاء المخالطين لكتاب سيبويه من يغفل عن التفطن لهذا ، فيحصل على علم اللسان صناعة و لا يحصل عليه ملكة ، انتهى  كلامه.
    فالواجب على الدارس الذي يريد أن ينبه شأنه في العربية أن يعكف على حفظ طرائق العرب في الحديث ، لتلتئم القاعدة مع الأسلوب ، و لا يكون حافظا قاعدة دون العلم كيف يتعامل معها ، فما الجدوى في تعلم قاعدة تحفظها و لا استطاعة لك أن تستخدمها  !
    فالنحو من أجَلِّ العلوم كما يقول الشاعر :
    النحو يبسط من لسان الألكَن  ::: و المرء تُكرمه إذا لم يَلحَنِ
    و إذا طلبتَ من العلوم أجلها  ::: فأجلُّها منها مقيم الألسُنِ
    فإن النحو هو الوسيلة للوصول إلى العربية ، و ليس هو العربية نفسها ، و لا يعني أنك إذا تلقفت قواعدها فإنك على قبة عالية من الفصاحة و البيان ، إنما سبيل ذلك أن تعرف كيف كانت العرب تتكلم ، و كيف كان حديثهم ، و لا سبيل لك إلي ذلك إلا بحفظ أشعارهم و أمثالهم  و النظر في الكتب المؤلفة في أيام العرب .

    عفيف إسماعيل يوسف  

    Leave a Reply

    Your email address will not be published. Required fields are marked *

    Back To Top